منذ بداية تكوين تاريخ العرب الإسلامي، وتحديداً عند هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة فكر النبي الكريم في اختيار المدينة المنورة عاصمة له، وكان اختياراً موفقاً، لأن الحياة متيسرة فيها، إضافة إلى موقعها الحصين، وتأييد أهلها لرسالته، ومنها خرجت دعوته إلى كل شبه الجزيرة العربية ومن ثم إلى بقية الأمصار التي أسلمت الواحدة تلو الأخرى.
بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ظلت عاصمة الخلفاء الراشدين ومنطلقهم لنشر الإسلام. إلا أن الأحداث التي شهدتها المدينة المنورة في اغتيال عثمان بن عفان (رضي الله عنه) دفعت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى تغييرها، واتخاذ الكوفة عاصمة لحكمه ومنها كانت منازلاته لمعاوية بن أبي سفيان وبقية خصومه.
وبعد انتصار معاوية بن أبي سفيان وتأسيس الدولة الأموية، فضل معاوية أن يظل في دمشق، وأن يعلنها عاصمة لحكمه، ذلك لأنه أصلاً كان والياً عليهاً وعلى الشام، ومقيماً فيها منذ زمن خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
لم تكن دمشق كما تذكر كتب التاريخ مؤهلة لتكون عاصمة الدولة الأموية الجديدة، فهي مهدده الحدود من البيزنطيين وغيرهم إلا أن الحكام الجدد أسسوا أسطولاً أمن السيطرة على سواحلها في البحر الأبيض المتوسط، وحشدوا جيشاً كبيراً لحماية أطراف الشام الشمالية،
كذلك أحوالها الصحية كما يذكر ابن الفقيه والثعالبي والطبري وابن عسكر وغيرهم، إضافة إلى أن نظام إداراتها البيزنطي، غير أن الأمويين تغلبوا على كل العقبات بما في ذلك الخبرة التي كانت تنقصهم في البداية بإدارة الدولة واسعة الأطراف.
في العراق الغني، والذي كان مهد الساسانيين الذين سقطت دولتهم إلى الأبد، فقد ظل إقليماً مقلقاً أمام حكام الدولة الأموية، وكان من أبرز مدن العراق يومها، الكوفة والبصرة، ومن ثم أضيف لهما واسط، وتلك مدن هامة في تاريخ العرب لما لها من أهمية عسكرية، وإدارية،
وحضارية وقد أدرك الأمويون تنامي أهمية هذه المراكز وفشلوا في تقليصها على الرغم من محاولاتهم العديدة، خاصة الكوفة التي كانت هدفاً لجيش الثورة العباسية الذي انطلق من خراسان متوجهاً إلى الكوفة، وحدث أن أنسحب يزيد بن عمر بن هبيرة قائد الجيش الأموي إلى واسط مما أتاح للخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح أن يعلن منها تأسيس دولة بني العباس ويطارد منها فلول الجيش الأموي ويقتل آخر خلفائها.
والعباسيون أصلهم من الحجاز وأقاموا في الحميمة وثاروا في خرسان، وأصبحت الكوفة أول عاصمة لهم، إلا أن الكوفة كانت معقلاً للعلويين، فقد أحس أبو العباس بخطرهم وعدم ولائهم فنقل عاصمته إلى الأنبار وبني مدينة قريبة منها سماها الهاشمية كما يذكر اليعقوبي في تاريخه.
ولما ولي أبو جعفر المنصور خلفاً لأبي العباس عاد إلى الكوفة، أو إلى أطرافها. لم يرتح المنصور لموقعه الملاصق للكوفة، وخشي على جنده من تحريض العلويين، ففكر في بناء عاصمة جديدة تليق بإمبراطوريته الواسعة الأطراف، ووضع لها أوصافاً تجمع ما بين الحماية العسكرية، وجودة المناخ، وحسن المنظر وتوفير الماء، وسهولة الاتصال بها.. ومواصفات عديدة لم يجدها إلا في بغداد، التي كان قدر أرسل رسله للبحث عن مكان مناسب حسب مواصفاته.
ثم انتقلت عاصمة بني العباس إلى سامراء التي لم تستطع منافسة بغداد على أهميتها، إذ ظلت بغداد هي الأكثر ازدهاراً، وإن حركتها الثقافية والتجارية لا تتقلص وأن ابتعد عنها الخليفة والحكام، لذا سرعان ما عادات بغداد عاصمة للعباسيين. بسقوط الدولة العباسية وتشرذمها انتقلت العاصمة إلى القاهرة، عاصمة الدولة الفاطمية، التي ازدهرت بازدهار حكم الفاطميين واتساع رقعة دولتهم.
عانت الأمة العربية من التمزق والتشرذم بعد سقوط إمبراطوريتهم في بغداد، وجاءت فترة سميناها دويلات المدن إلى أن سيطر العثمانيون، وخضعت كل الأقطار العربية تحت حكمهم وأصبح العراق ساحة صراع عثماني، صفوي فارسي حتى الحرب العالمية الأولى وسقوط دولة بني العثمان.