يعتبر بيكاسو بلا شك الفنان الذي استطاع تجسيد الفن الحديث، فهو ظاهرة فنية جريئة، وليس هناك فنان سواه قلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب، بهذا العنف والاستخفاف المكابر. رسم بيكاسو (1881 - 1973) في (المونمارتر) بأسلوب أنيق نوعاً ما، ظهر من خلاله تأثره بالفنانين (تولوز لوتويك، وفويلار).
وفي السنة التي تلتها بدأ الأزرق البارد يطغى على ألوانه، فرسم نساء باردات حزينات، وأطفالاً مرضى ومتسولين مسنين، ثم استبدل بعد ثلاث سنوات الأزرق بالوردي فصور مهرجين في السيرك، وعبرها ظهرت الوجوه الخانعة، والأسارير التي لا تعرف الابتسامة إليها طريقاً.
ليشرع بيكاسو بعد هذه المرحلة بتطوير التكعيبية، حتى انه ألزم نفسه بتحديد نهج واضح في هذا السياق، وإن كان يبدو كأنه يرسم صوراً شخصية على غرار أسلوب (أنغر) التقليدي، ويجعل البعض يفسرون ما يفعل بأنه مؤشر إلى إنكار التكعيبية.
لكنه لم يكن هكذا، فكل ما جربه بيكاسو كان دليلاً بشهادة معاصريه على الاتساع والغنى والعبقرية، بفضل حيويته المتجددة والنضارة المستمرة، والقلق المتواصل. لقد كان ثمرة الرغبة المعتملة فيه أبداً للتعبير عن نفسه بحرية تامة، فبيكاسو كما قيل عنه، قد يكون الفنان الوحيد في عصره الذي يفعل بالضبط ما يشاء ومتى يشاء،
وفي مجتمع يتطور سريعاً نحو تنظيم الحياة وبرمجتها وفق قواعد صارمة، ويضع للعقول مقاييس خاصة، فإن موقفاً كموقفه يبدو مروعاً واستفزازياً لا محالة، حتى ان هذا برز بوضوح في فنه، وبلغ ذروته في العام 1937 بدافع سياسي بحت وهو الحرب الأهلية في اسبانيا، ليصبح همه كله منصباً على شعب بأكمله،
فبعد القصف الوحشي الذي تعرضت له البلدة الصغيرة (غرنيكا) بالطائرات الفاشية، رسم، كصرخة احتجاج، أحد أكثر الأعمال الفنية إدانة، ليمثل أقصى ما أوحي به الرعب الناجم عن الدمار في أي مكان، بعد ذلك ليس من العجب أن يتخذ بيكاسو موقفاً منحازاً من الحرب العالمية الثانية فمنذ ذلك الوقت شرع يرسم سلسلة من النساء الجالسات بوجوه مشوهة بوحشية،
تحمل في ملامحها أقسى صنوف العذاب والحزن، التي حلت بالبشرية في تلك السنوات المروعة، ولهذا اعتبر فن بيكاسو مرتبطاً وملتزماً، لم يقطره بيكاسو في المختبر، لأنه ملتصق بحياة الفنان نفسه يعبر بصدق عن حياته وثورات الغضب فيها، ومسيراتها وإحباطها.
لقد بقي اللون الأزرق البارد يتسلل إلى لوحاته حتى وإن لم يستخدمه، ليعبر كما في مراحله الأولى عن ذلك الحزن النبيل، الذي يلتهب في قلوب العالم، جراء الحروب والدمار، إنه حزن يجتاح عالمنا إلى الآن، وكأنه يرى في (الغورنيكا) عالماً ما زال مستمراً.
