المكان عادة؛ هو البطل المطلق للكتابة الأدبية، من كونه الملهم والدافع إلى الإبداع لما يشتمل عليه من مكونات الأشياء والحياة. ولكونه المكون الأول للعواطف والخيال. وكثير من المبدعين يمتحون من مخزون الذاكرة العتيقة حصيلة أماكن الطفولة ومراحل الوعي الأوليّ، وغالبا ما تكون هذه الفترة هي الأخصب في ما تكتنزه من حالات ومواقف ومشاعر وتجارب؛ لكن ذلك لا يعني أن الأماكن اللاحقة لا تساهم في تشكيل مخزون المبدع؛ ومنها تلك الأماكن التي تنضح بالألفة، وتلك الشاهدة على التجارب الإنسانية.
وفي ذلك يتساءل بعض المهتمين بالمنتج الأدبي الإماراتي حول مقدرة الكاتب المحلي على صياغة موضوعه القصصي أو الروائي في جانبه الجمالي والفني، بينما هو يعيش في ظل واقع ديدنه التغير المستمر، وسمته الحراك الدائم، حيث يرى القارئ والمتلقي عموماً؛ ضرورة ارتكاز الإبداع على ذاكرة الأماكن الدائمة والثابتة في المحيط نفسه، وهو الأمر الذي لا يتوفر لإنسان هذه المنطقة، ذات التحول السريع الذي لا يستثني جانبا من جوانب الحياة؛ فلا يبقي أمراً على حاله لفترة طويلة، مما يتيح فرصة اختمار المشروع الإبداعي.
لا شك في أن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فإنه يفقد خصوصيته وأصالته. ولكن هل يمكننا أن نتساءل إن كانت الكتابة عن المكان تعبير عن تجربة أم عن فكرة؟ ولعل غاستون باشلار أشهر من أجاب عن هذا السؤال؛ حين التفت إلى ذلك عبر (جماليات المكان) حيث انطلق من مكان الألفة بيت الطفولة القديم، الذي فيه يتم تكييف الخيال.
وإذا كان البيت القديم هو منبع الذكريات، فإن كل مبدع كان له بيت قديم ذات يوم؛ استمتع فيه بمشاعر الحماية التي حملها بوجدانه إلى كل الأمكنة اللاحقة بعد ذلك، بتلقائية وبساطة طالما توفر لديه جراب الخيال.
لكن؛ يبدو أن كل ذلك لم يردع المتشككين في مقدرة المبدع الإماراتي للمضي بمشروعه، ولم يمنع السؤال.. عن كيف يتسنى له ذلك؛ بينما هو لم يعثر على بيت الطفولة الذي ألفه مثلا، ولم تبق مدرسته التي تفتحت براعم وعيه في ساحتها، ولا يجد الشارع الذي سار فيه قبل عقد من الزمن!
وربما يغيب عن بال المتسائل، بأن الحراك هو سنة الحياة وليس الثبات؟! كما غاب عن باله أن هذه البيئة قائمة أساسا على شريط ساحلي في الأطراف، بينما يقيم العمق الصحراوي على جغرافية من الرمال المتحركة؟! ولعل هذه الثيمة نمطية هذه البيئة التي جبلت إنسانها على مبدأ التغيير الدائم، ناهيكم عن متطلبات العصر.
إن خصائص هذه البيئة قد أفرزت العديد من الأسماء البارزة في الشعر والتي أبقت آثارهم الأدبية إلى يومنا وسوف تبقيها خالدة، وهي نفسها كذلك التي أفرزت العديد من الأسماء في الأدب القصصي والروائي، وهي لا تزال قادرة على ولادة المزيد من المبدعين. كما أن هذه البيئة بطبيعتها المختلفة، والمشتملة على بعض التناقضات الصارخة أحيانا، والواقعة بين الوضوح الشديد حد الشفافية في مدنها، وبين الغموض والصمت الصحراوي الصافي الواقع خارج جدران هذه المدن؛ فإن أسقط ذلك على المنتج الأدبي جاء لصالحه، وإن لم يُسقط جاء لصالحه أيضاً.
