من دون أقل مبالغة؛ اللغة بحر.. بحر من المعاني والدلالات، وثراء مكنوز من المفردات، ومهما اغترفنا منه فإننا بالكاد نصل لما هو فوق السطح فلا نحصيه، ولا يتسنى لنا الانتهاء من استيعابه، فهو كثير بلا حدود، وإن جد المرء في اجتهاده لبلوغ أقصى المعاني في اللغة؛ فإنه قد يتلمس العمق إن لم يبق دونه بكثير.
ولا يعيب المرء رجوعه إلى قواميس اللغة والاستعانة بها لفهم معنى كلمة ما أو اقتباس أخرى، ولعله بعد ذلك ينجو أو على الأقل يتلافى الخطأ، وعلى ذلك قد يحسب له أجر.وفي كل عودة إلى قواميس اللغة يكتشف المرء الكثير مما كان غائبا عن إدراكه، أو مما هو مقل في استخدامه إن لم يجهل وجوده أصلا.
ومما لا شك فيه فإن هجر المراجع يؤدي إلى تكريس الأخطاء، وأولها الخطأ في توظيف الكلمة المناسبة وصياغتها في السياق الصحيح، ومع ما تتعرض له اللغة العربية دونا عن باقي اللغات الإنسانية من تهجين وتطعيم بلغات أخرى مختلفة، فلا أسهل من أن يأتي المرء بأخطاء لغوية متكررة.
وهو الأمر الذي دفع بالأديب واللغوي الراحل محمد العدناني إلى جمع هذا الكم من الأخطاء التي يقع فيها الأدباء والكتاب ووضعها في مجلدين، الأول (معجم الأخطاء الشائعة) والثاني (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) حيث يعالجها ويبين صوابها مع الشرح والأمثلة.
ومع ما تفتحه مثل هذه المعاجم من شهية للمطالعة، مضاف إليها مساحة متسعة من الفضول، يصبح الإبحار لاكتشاف الأخطاء وتصويبها مغريا؛ لذيذا ومدهشا.فكم جلب اسم شخص إليه أو لقبه الكثير من التعليقات الساخرة تارة والمستهجنة تارة أخرى، وذلك بسبب عدم إدراكه لمعنى الاسم أو دلالة اللقب، وكم جلب سوء استخدام كلمة ما عاقبة سيئة لآخر.
ومن الكلمات الشائعة الاستخدام بكثرة كلمة (كذاك). ويبدو أن الغالبية منا لم تدرك معنى هذه الكلمة، ولم نحسن استخدامها، فكُرس استخدامها في سياقات تفيد الإشارة والتشبيه. وقد وردت (كذاك) في أشهر قواميس اللغة وأقدمها وهو لسان العرب لابن منظور، والذي قد لا تخلو منه مكتبة عامة كانت أو خاصة.
وردت الكلمة من خلال بيت في قصيدة حين استشهد به واحد من علية القوم وقد خطب كريمته بعض الحمقى لأحدهم فرده وقال (امسح من الدرمك عني فاكا/ إني أراك خاطبا كذاكا) وقال.. إن العرب تقول فلان كذاك أي سفلة من الناس، وعليه فقد رفض الأب خطبة الرجل لابنته، وقد وجده من دون صفات الكفاءة التي تسمح بقبول طلبه.
وأما (الدرمك) التي وردت في البيت ذاته؛ فيقال عن تربة الجنة إنها درمكة بيضاء مسك، والذي يدرمك حتى يكون دُقاقاً، أي حتى يصير أدق وأنعم من كل شيء، ومنه الدقيق والكحل والتراب. فالدرمك إذن تربة الجنة الناعمة البيضاء كالدقيق، وأما (كذاك) وقد أوضح ابن منظور معناها؛ فلعلنا ندرك تكريسنا المزمن لتوظيفها في السياق الخاطئ.
