بول مارشال
يميل الرأي العام في المملكة المتحدة إلى اعتبار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «البريكست» فشلاً اقتصادياً، ويصعب دحض نتائج استطلاعات الرأي، لكن ما زال من غير الواضح ما إذا كانت المشكلة تكمن في الخروج نفسه أم في طريقة تنفيذه.
في وقت الاستفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رأى العديد من مؤيديه أنه ستكون هناك آثار سلبية اقتصادية قصيرة الأجل، لكن هذه الآثار السلبية ستتفوق عليها بالكثير من الفوائد السياسية طويلة الأجل لاستعادة السيادة الوطنية. لقد أردنا أن تحكم بريطانيا من ويستمنستر وليس من بروكسل، لأسباب وجيهة.
وقد صدقت التوقعات بحدوث احتكاكات اقتصادية قصيرة الأجل، فقد أدى وضع الحواجز مع أكبر شركائنا التجاريين إلى تقلص التدفقات التجارية، لا سيما في القطاعات الأكثر خضوعاً للتنظيم عبر الحدود، مثل المواد الغذائية والمنتجات الزراعية، لكن هذه المشاكل تبين أنها أسوأ مما كان متوقعاً، بسبب سوء إدارة الحكومات البريطانية المتعاقبة، إلى جانب رغبة «أصدقائنا» في الاتحاد الأوروبي بمعاقبتنا على الخروج، لكن مع مرور الوقت منذ الاستفتاء بات من الواضح لي أكثر فأكثر أن الفوائد الاقتصادية طويلة الأجل لـ«البريكست» يجب أن تفوق الخسائر قصيرة الأجل. ورغم أن الوقت لا يزال مبكراً إلا أن الاتفاقيات المهمة الموقعة مع الولايات المتحدة والهند وأعضاء الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ توفر فرصاً كبيرة طويلة الأجل، لكن أليس من الصواب توجيه تجارتنا نحو المناطق الأسرع نمواً في العالم بدلاً من الاتحاد الأوروبي الراكد؟
إن الجائزة الأكبر تكمن في فرصة دفع عجلة النمو والإنتاجية من خلال الابتكار والاستثمار. وقد أصبح الاتحاد الأوروبي، المثقل باللوائح، منطقة تعاني من نقص واضح في الابتكار. في المقابل تتقدم الولايات المتحدة بخطى ثابتة، فهي تقود العالم في العديد من المجالات الرئيسية للتكنولوجيا والابتكار، ويتجاوز ازدهارها - الذي يقاس بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي - المملكة المتحدة بنسبة 41% وفقاً لتقديرات عام 2025.
ولقد ركز قادتنا السياسيون بشكل مفرط في السنوات الأخيرة على نمو القوى العاملة أداة اقتصادية، كما يتضح من سياسة الهجرة، ولم يولوا اهتماماً كافياً للإنتاجية والابتكار. وبفضل قطاعنا الجامعي، وثقافتنا الريادية نسبياً، وقوة أسواق رأس المال التاريخية، تحتل بريطانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في العديد من الصناعات الواعدة للمستقبل. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنحت فرصة لوضع نظام تنظيمي مرن وترتيبات ضريبية جذابة للصناعات الناشئة، ما كان سيجعل بريطانيا مركزاً للمواهب وريادة الأعمال،
لكن للأسف، فعلنا عكس ذلك تماماً، ولنأخذ الذكاء الاصطناعي مثالاً، فهو المحرك الأهم للابتكار والنمو في المستقبل، لكن هذا المجال بحاجة إلى تنظيم واضح ومرن، إلى جانب طاقة رخيصة ووفيرة. وقد أعاقت المملكة المتحدة بشدة انتشار مراكز البيانات، بسبب ارتفاع تكاليف الكهرباء بشكل كبير (مع أن هذا لا علاقة له بـ«البريكست»)، كما أعاق الاتحاد الأوروبي بشكل كبير تطوير الذكاء الاصطناعي، من خلال نظام اللائحة العامة لحماية البيانات، الذي يضع عقبات هائلة أمام تبادل البيانات.
وبدلاً من تصميم سياسة خاصة بنا أكثر ملاءمة للابتكار اختارت المملكة المتحدة ببساطة دمج اللائحة العامة لحماية البيانات في القانون المحلي، وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن اللائحة العامة لحماية البيانات أدت أيضاً إلى انخفاض ملحوظ في نشاط التجارب السريرية في قطاع الرعاية الصحية، ولا شك في أن الأمر نفسه ينطبق على قطاعات أخرى.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان من الممكن أن تصبح لندن مركزاً رئيسياً لتقنية البلوك تشين والعملات المستقرة، لكن العديد من متداولي البيتكوين يفضلون البرتغال وميلانو، بسبب نظامهما الضريبي، وبينما سنت اليابان وسنغافورة والإمارات قوانين مبتكرة للعملات المستقرة قبل عدة سنوات، لا تزال هيئة السلوك المالي في مرحلة التشاور.
لقد تراكمت كل هذه الإخفاقات وتفاقمت، بسبب سياسة مالية تبدو وكأنها تهدف إلى إبعاد الكفاءات الدولية، فقد زادت ضريبة الشركات الرئيسية في المملكة المتحدة، بشكل غير مفهوم، من 19% إلى 25% في عام 2023، لذلك أصبح من النادر أن تتخذ أي شركة دولية ناطقة بالإنجليزية من لندن مقراً رئيسياً لها في أوروبا. في الوقت نفسه يجري دفع الأفراد الموهوبين إلى الرحيل، بسبب مزيج من الزيادات الضريبية الأخيرة، وإلغاء وضع الإعفاء الضريبي لغير المقيمين.
إن الأوان لم يفت بعد لتصحيح السياسات الخطأ، لكن ذلك يتطلب حوكمة رشيدة، وللأسف كشف «البريكست» عن أن الطبقة الحاكمة لدينا غير قادرة على مواجهة تحديات الحكم، ولعل هذا كان أكبر خطأ ارتكبه مؤيدو الخروج، إذ افترضنا أن الطبقة الحاكمة في المملكة المتحدة ستحسن التعامل مع هذا التحدي. في كل الأحوال لا تزال هناك فرصة سانحة لتبني مستقبل ديناميكي ومبتكر، لكن ذلك سيتطلب تغييراً جذرياً في مؤسساتنا وكوادرنا.
