جون بليندر
أعباء لا تطاق على عاتق الأجيال القادمة مع إمكانية حدوث أزمات مالية وعدم استقرار سياسي
هل أصبح الدين العام في العالم المتقدم غير قابل للإدارة بشكل جذري؟ إن الأرقام الأخيرة لهذه الديون تظهر بوضوح مدى ابتعادنا عن النموذج القديم للمالية العامة، حيث كان الدين يتراكم في الحروب ويسدد في أوقات السلم.
ولنأخذ الولايات المتحدة مثالاً، فبينما انخفضت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أكبر اقتصاد في العالم من 106% عام 1946 إلى 21.6% في الفترة 1990 - 1991، فقد عادت مجدداً لترتفع إلى ما يقارب 100%، ويعود ذلك، من بين أمور أخرى، إلى الأزمة المالية وجائحة كوفيد19.
والحقيقة التي تثير الكثير من القلق هي أنه في الولايات المتحدة، كما في غيرها، انخفض النمو الاقتصادي مقارنة بالعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وارتفعت أسعار الفائدة، واتسعت فجوة العجز في الميزانية. ويتوقع مكتب الميزانية في الكونغرس حالياً ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى غير مستدام يبلغ 156% بحلول عام 2055، ما قد يضعف دور سندات الخزانة الأمريكية ركيزة أساسية في النظام المالي العالمي.
وفي غضون ذلك، يتوقع صندوق النقد الدولي في أوروبا تضاعف متوسط الدين العام للدول خلال السنوات الخمس عشرة القادمة في حال عدم تغيير السياسات، ما سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، وانخفاض النمو، وعدم الاستقرار المالي، وكل ذلك يشكل عبئاً لا يطاق على الأجيال القادمة.
وبالطبع، هناك طرق مجربة لخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويعد تحقيق فائض في الميزانية الأولية قبل احتساب الفوائد أداة سياسية أساسية، كما يساعد النمو الاقتصادي، الذي يعزز الإيرادات الضريبية ويقلل الإنفاق الدوري، بشكل واضح في معالجة المسألة. ويعتبر إبقاء أسعار الفائدة الحقيقية دون معدل النمو آلية فعالة للغاية لخفض الدين. ويلعب التخلف غير الرسمي عن السداد عبر التضخم دوراً حاسماً، وكذلك القمع المالي، حيث تجبر الحكومات المستثمرين على شراء سندات الدين بأسعار أقل من أسعار السوق.
تقدم تجربة المملكة المتحدة في فترة ما بعد الحرب دراسة حالة لكيفية تفاعل هذه العوامل، فقد انخفضت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من أكثر من 250% عام 1946 إلى 42% فقط بعد ثلاثة عقود. وفي بحث رائد، يبين الباحثان باري إيشنغرين، وروي ستيفز، أنه خلال معظم فترة توحيد الدين (1946-1955)، حققت المملكة المتحدة فوائض كبيرة ومستمرة في الميزانية الأولية، على الرغم من التوسع الهائل الذي قامت به حكومة حزب العمال في دولة الرفاه.
ومع ذلك، كان التضخم هو المساهم الأكبر في خفض الدين، إذ كان مسؤولاً عن أكثر من 80% من عملية توحيد الدين خلال تلك الفترة. ومع ذلك، فمنذ عام 1955 كان للانضباط المالي والنمو الاقتصادي الدور الأكبر في خفض الدين - وهو أمر مثير للدهشة بالنظر إلى سجل بريطانيا آنذاك في عدم الكفاءة الاقتصادية - لأن إسهام تضخم أسعار المستهلك، الذي بلغ ذروته عند 24% عام 1975، قد تم تحييده من خلال الارتفاع الصاروخي لأسعار الفائدة.
وقد وُصفت سياسات هذا التخفيض الهائل للديون بأنها صراع على توزيع الدخل، يدور حول ما إذا كان ينبغي استنزاف أصحاب الريع، أو استغلال العمال، أو إثقال كاهل رواد الأعمال بضرائب باهظة، إلا أن هذه الفئات تتداخل في الواقع، لا سيما أن أصحاب الريع اليوم يشملون ملايين المشتركين في صناديق التقاعد.
ويتسم هذا الصراع اليوم بضغوط متزايدة لتقديم مساعدات سخية لمواجهة شيخوخة السكان، وما يترتب على ذلك من تكاليف باهظة على المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية وغيرها. أضف إلى ذلك تكلفة التوترات الجيوسياسية وتغير المناخ.
فهل يمكن أن يأتي التحفيز الهائل للنمو الناتج عن الذكاء الاصطناعي لإنقاذ الموقف؟ في ورقة بحثية حديثة لمعهد أبحاث دويتشه بنك، اعتمد ماثيو لوزيتي، وزملاؤه، على متوسط تقديرات مجموعة من كبار الاقتصاديين لهذا التحفيز، واقترحوا أن الذكاء الاصطناعي قد يرفع الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 0.5 و0.7% سنوياً. لكنهم خلصوا إلى أن دافع النمو الناتج من المرجح أن يبطئ من تزايد الديون بدلاً من أن يؤدي إلى انعكاس حاد في مسارها. إذن لا يوجد حل مفاجئ هنا.
وفي عالم بات فيه النمو يعتمد بشكل متزايد على الديون، يولّد الاستقطاب السياسي والشعبوية مطالب متضاربة بزيادة الإنفاق وخفض الضرائب. وفي الوقت نفسه، زادت البنوك المركزية الطين بلة بميلها إلى توفير شبكات أمان للأسواق المتهاوية، فيما تعجز عن كبح جماح التفاؤل المفرط، كما أن استهدافها للتضخم يصعب الآن التخلص من الديون عن طريق التضخم. ويجب أن يكون التضخم غير متوقع حتى لا يعادل ارتفاع أسعار الفائدة تأثيره. لذا، فإن هذا الحل سيعتمد، في الواقع، على تمويل البنوك المركزية للدين العام بقرار سياسي.
يعد القمع المالي إشكالياً أيضاً في عالم مالي أكثر تعقيداً، حيث تكون ضوابط الصرف اللازمة لدعم مثل هذا القمع قابلة للاختراق على الأرجح. وبناءً على ذلك، فإن الانضباط الصارم في سوق السندات، وليس الإرادة السياسية، هو مفتاح توحيد الديون، وهذا ينذر، في نهاية المطاف، بأزمات مالية وعدم استقرار سياسي، لذلك، يرى الخبير الاقتصادي السويدي أندرس أسلوند، أن الوضع الحالي يذكرنا بعام 1929. وحتى إذا كنت تعتقد أن وجهة نظره متطرفة، فمن الصعب أن تختلف معه في أن هذه الأوضاع لا يمكن أن تنتهي بشكل جيد.
