جون بيرن مردوخ
على مدى العقد الماضي هيمن على الخطاب السياسي في معظم أنحاء العالم المتقدم صعود اليمين الشعبوي، ففي عام 2016 برز على السطح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب الأول، وبروز حزب البديل من أجل ألمانيا «AfD» قوة مؤثرة في السياسة الألمانية، وقد وصلت أحزاب وسياسيون مماثلون إلى السلطة أو اقتربوا منها في إيطاليا وهولندا وفرنسا، بينما اشتدت حدة المواقف المعادية للمهاجرين في العديد من البلدان، وتم تشديد القيود على الحدود.
المشكلة أن هذه الصورة أحادية البعد أصبحت أكثر تعقيداً، فقد شهد العام الماضي تحولات في المواقف ضد الأحزاب الحاكمة، مع مكاسب على كلا الجناحين المتطرفين. وشهد هذا العام خطوات كبيرة لما يمكن أن نسميه اليسار الشعبوي، بدءاً من فوز زهران ممداني في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك، مروراً بصعود حزب اليسار «Die Linke» في الانتخابات الألمانية، ووصول حزب الخضر لفترة وجيزة إلى المركز الثاني في استطلاع رأي أجري مؤخراً في المملكة المتحدة، وسط دعوات لفرض ضرائب على الثروة، وتحديد سقف للإيجارات.
وقد يدفع الخروج عن السردية الموحدة للصعود الشعبوي اليميني بعض القراء للاطمئنان، لكن عند التدقيق نجد أن هذه التحولات المتباينة ظاهرياً هي في واقع الأمر جزء من اتجاه متماسك، وربما أكثر إثارة للقلق: ظهور وترسخ السياسة المعادية للنظام، والمعاكسة للنمو، والقائمة أساساً على فكرة أننا نعيش في عالم ذي محصلة صفرية.
وبالاستناد إلى أعمال الخبيرة الاقتصادية بجامعة هارفارد، ستيفاني ستانتشيفا، وآخرين، فإن تحليلي لاستطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة «مور إن كومون» أن معتقدات المحصلة الصفرية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، سواء على اليسار (كأن يغتني البعض بإفقار الآخرين) أو على اليمين (كأن ينجح المهاجرون على حساب السكان الأصليين)، هي تعبيرات مترابطة عن نفس الرؤية العالمية الكامنة، وهي أن الموارد محدودة، ولذا يجب علينا اللجوء إلى القيود والضرائب والمعاملة التفضيلية لإعادة التوازن بين الرابحين والخاسرين.
وهذه المواقف مثيرة للانقسام، وعدائية، وغالباً ما تكون لها عواقب سلبية على الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، لكن بعيداً عن كونها غير منطقية أو من صنع سياسيين ماكرين فإن ظهور هذه المعتقدات في مختلف البلدان والأنظمة السياسية يشير إلى أنها أصبحت متجذرة في واقع مشترك.
وعندما يكون النمو الاقتصادي ضعيفاً تصبح فرص الارتقاء الاجتماعي محدودة، ما يعني أن المكاسب غالباً ما تأتي على حساب الآخرين، وهذا يصف العقدين الماضيين بدقة متناهية، فقد بلغ متوسط النمو الاقتصادي للفرد في الغرب أقل من
1 % سنوياً منذ الأزمة المالية، بعد أن كان أكثر من ضعف ذلك في العقود الثلاثة السابقة، وثلاثة أضعاف قبل ذلك. وقد تباطأ التقدم الاقتصادي المتوارث بين الأجيال بشكل ملحوظ، وأصبح الجميع ينظرون نظرة اتهام إلى من يتقدمهم بخطوات قليلة أو إلى من ينضم إلى الصف في منتصف الطريق.
ويساعد هذا في تفسير المفارقة المتمثلة في أن القلق ازداد بشأن عدم المساواة خلال فترة تقلصت فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المملكة المتحدة بشكل عام، فنجاح الآخرين يصبح أقل إزعاجاً عندما يتقدم الجميع نحو الأمام.
وتفسر أهمية الحراك الاجتماعي التصاعدي في تكوين معتقدات الربح والخسارة لغزاً آخر ظاهراً، وهو: لماذا حقق الاشتراكي وعمدة نيويورك المنتخب زهران ممداني نجاحاً خاصاً بين المهنيين الشباب ذوي الدخل المرتفع؟ ففي ثمانينيات القرن الماضي، كان ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان نيويورك في الثلاثينيات من العمر، ممن يكسبون ما يعادل 100 ألف دولار بقيمة اليوم، يمتلكون منازلهم الخاصة، أما اليوم فقد انخفضت هذه النسبة إلى أقل من النصف. وبالنسبة للاشتراكيين ذوي الدخل المرتفع في نيويورك، وبحساب أبرز مؤشر للنجاح الاجتماعي والاقتصادي، الذي يتمثل في امتلاك المنازل، فهم عملياً فئة تتجه نحو الانحدار الاجتماعي، لذلك تلجأ إلى إجراءات جذرية مناهضة للسوق بدافع اليأس.
وتعد أزمة الإسكان واحدة من أسباب عديدة تجعل الشباب يتبنّون مواقف حادة للغاية تجاه الربح والخسارة، فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة مطردة في التحويلات الاقتصادية، التي تؤخذ من الشباب إلى كبار السن، حيث أصبحت المعاشات التقاعدية في العديد من البلدان أكثر سخاءً، بينما ارتفعت الضرائب والاستقطاعات الأخرى المفروضة على الشباب بالتزامن مع ارتفاع تكاليف السكن.
وهكذا يظهر واقع الأمور أن أكثر من نصف الناخبين الشباب يدعمون الآن أحزاباً ذات توجهات سياسية صفرية، يمينية كانت أم يسارية، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، وبدون اتخاذ إجراءات عاجلة لاستعادة الحراك الاجتماعي التصاعدي، سواء في مجال الإسكان أو في الاقتصاد بشكل عام، فإننا نخاطر بالوقوع في حلقة مفرغة من مجتمعات ذات نمو منخفض لا تنتج سوى سياسات معادية للنمو.
