جون ثورنهيل
لم أنسَ ما قاله لي ضابط سابق في جهاز المخابرات السوفييتية (كي جي بي) عندما قابلته في موسكو في تسعينيات القرن الماضي عن شكوى كانت شائعة بين الجواسيس السوفييت: رؤساؤهم لم يثقوا بهم قط، مهما كانت جودة المعلومات الاستخباراتية التي كانوا ينقلونها.
لا شك أن أحد أشهر الجواسيس في التاريخ، ريتشارد سورج، كان سيوافق على ذلك. فبينما كان هناك عميل سوفييتي في طوكيو، حذّر سورج ستالين من أن هتلر على وشك غزو الاتحاد السوفييتي في يونيو 1941. لكن ستالين اشتبه في أن سورج عميل مزدوج، وفقاً لما ذكره ستيفن كوتكين، كاتب سيرة ستالين. وبعد أن تبرأ منه ستالين وحُرم من فرصة لتبادل الجواسيس، أعدم اليابانيون سورج شنقاً عام 1944، ليعلن بعد عشرين عاماً أحد أبرز الأبطال للاتحاد السوفييتي.
إن أحد أقوى التفسيرات لانتصار الغرب في الحرب الباردة هو تفوق النظم الديمقراطية في معالجة المعلومات. وصحيح أن الديمقراطيات قد تعاني من بعض نقاط الضعف الخطيرة (مثل وهم أسلحة الدمار الشامل في العراق عام 2003)، لكن التدفق الحر للآراء المتضاربة يسمح لها بالاستجابة السريعة للظروف المتغيرة وتصحيح الأخطاء. والمعلومات التي تستند إليها قراراتها تكون أكثر موثوقية وفائدة.
لكن السؤال المقلق اليوم هو إلى أي مدى تُضعف التكنولوجيا هذه الميزة؟ إن البيانات المُعالجة آلياً والمتاحة لمختلف الأنظمة قد تكون أكثر موضوعية من آراء المقربين المتحيزة، في حين أن الثقة في المؤسسات الديمقراطية قد انهارت في العديد من البلدان. علاوة على ذلك، فإن المجتمعات الرقمية المفتوحة أكثر عرضة للتلاعب الخارجي. ذلك، في أول خطاب علني لها هذا الأسبوع بصفتها رئيسة جهاز المخابرات السرية البريطاني، قدمت بليز مترويلي حجةً قويةً مفادها أن التكنولوجيا يمكن استخدامها للدفاع عن الديمقراطيات، لكن بشرط استخدامها بإتقان. وقالت: «يجب أن يتغلغل إتقان التكنولوجيا في كل ما نقوم به. ليس فقط في مختبراتنا، بل في الميدان، وفي أساليب عملنا، والأهم من ذلك، في عقلية كل ضابط بالمخابرات».
وبصفتها الرئيسة السابقة لقسم التكنولوجيا في جهاز «إم آي 6»، ليس من المستغرب أن تُولي مترويلي اهتماماً كبيراً للآلات. يبدو أن جيمس بوند العصر الحديث بحاجة إلى إتقان لغة بايثون كما يتقن لغات أجنبية متعددة. وهذا صحيح بشكل خاص بالنظر إلى أن «خط المواجهة أصبح في كل مكان»، كما قالت مترويلي. «المعلومات، التي كانت في يوم من الأيام قوةً موحدة، تُستخدم كسلاح بشكل متزايد». إن الترابط الفائق للمجتمعات الحديث، والبيانات مفتوحة المصدر، والاستخدام المكثف لأدوات التعلم الآلي، كلها عوامل تغير عالم جمع المعلومات الاستخباراتية. لذلك، لا يكمن التحدي اليوم في ندرة المعلومات، بل في وفرتها الهائلة، إذ كيف يمكن استخلاص المعلومة المهمة وسط هذا الكم الهائل من البيانات المتدفقة من الهواتف المحمولة وحسابات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية؟ يسلط الهجوم الإرهابي الذي وقع في سيدني هذا الشهر الضوء على مخاطر عدم الربط بين المشتبه بهم بالتطرف وحاملي تراخيص الأسلحة.
وقد كتبت آن نيوبيرغر، المسؤولة السابقة في وكالة الأمن القومي الأمريكية، عن إمكانيات إنشاء نظام تجسس آلي (سأسميه أنا «سباي جي بي تي»). وأشارت إلى أن جهاز المخابرات الإسرائيلي نجح في عام 2018 في الحصول على ما مجموعه 55 ألف صفحة من الوثائق، إضافة إلى صور ومقاطع فيديو من إيران حول برنامجها النووي. وقد استغرق الأمر شهوراً حتى يتمكن العملاء من ترجمة الوثائق من الفارسية وتحليل المعلومات. أما اليوم، فيمكن إنجاز هذه العملية في غضون ساعات باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وعلى سبيل المثال، لنفترض أن وكالة استخبارات غربية بحاجة إلى معرفة المزيد عن العمليات السرية الروسية في صربيا. فيمكن لنظام التجسس الآلي الذي أطلقت عليه اسم «سباي جي بي تي» البحث في قواعد بيانات ضخمة تضم معلومات استخباراتية موثقة، ورصد أنماط يصعب العثور عليها بطرق أخرى، ثم الإجابة عن الأسئلة. «هذا من شأنه أن يجعل المعلومات الاستخباراتية أكثر ثراءً، وأكثر توفراً، وبصراحة أكثر فائدة»، كما أخبرتني نيوبيرغر.
لكن أحدث التقنيات جعلت الديمقراطيات أكثر عرضة للخطر. فقد مكنت من اختراقات الطائرات المسيرة للمطارات المدنية، وقطع كابلات الإنترنت البحرية، وحملات التضليل التي ترعاها بعض الدول، والهجمات الإلكترونية التي يشنها قراصنة خفيون. في الشهر الماضي، أعلنت شركة أنثروبيك المتخصصة في الذكاء الاصطناعي أنها أحبطت هجوماً إلكترونياً آلياً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي، والذي تشتبه بشدة في أنه قامت به جماعة صينية.
ومن المفهوم أن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا قد استنزفت الكثير من جهود وكالات الاستخبارات الغربية. لكن التحدي الأكبر والأطول أمداً الذي تمثله الصين لم يحظَ إلا باهتمام ضئيل في خطاب بليز مترويلي، مع أن الصين أصبحت قوة عظمى تكنولوجية وذات إمكانيات أكبر بكثير مما كان عليه الاتحاد السوفييتي في أي وقت مضى، أو مما عليه روسيا اليوم. وتعد مترويلي محقة في إصرارها على ضرورة تمسك الديمقراطيات بقيمها للحفاظ على تفوقها المعلوماتي. وقالت: «إن التحدي الأبرز في القرن الحادي والعشرين ببساطة ليس من يمتلك أقوى التقنيات، بل من يوجهها بحكمة أكبر».
