كيف انقلب «تأثير بروكسل» ضد الاتحاد الأوروبي نفسه؟

بيتر فوستر - باربرا موينز

قبل ست سنوات، تعهد الاتحاد الأوروبي بوقف تدمير غابات العالم، كخطوة مهمة نحو وقف تغير المناخ، وذلك بفضل قوته التنظيمية الهائلة. وبما أن الاتحاد يستورد 30 % من إنتاج البن العالمي و60 % من إنتاج الكاكاو، فقد راهن واضعو القواعد الجديدة على ما يُسمى بـ«تأثير بروكسل».

كان من المفترض أن يلتزم مزارعو البن في البرازيل أو مصنعو القفازات المطاطية في ماليزيا بهذه القواعد، وأن يفكروا ملياً قبل إزالة الأشجار لزراعة المحاصيل، وذلك لمجرد الوصول إلى 450 مليون مستهلك في الاتحاد الأوروبي لكن مع تزايد الاعتراضات على الإجراءات التنظيمية لمكافحة إزالة الغابات من قِبل كل من الدول الصناعية والمنتجة للسلع، قررت المفوضية الأوروبية التريث ليتأجل الموعد النهائي لدخول هذه القواعد حيز التنفيذ حتى ديسمبر 2026.

وقال بيدرو ميغيل دا كوستا إي سيلفا، سفير البرازيل لدى الاتحاد الأوروبي: «لقد تجاوزوا حدودهم، وذهبوا بعيداً جداً في محاولتهم لتنظيم العالم». وأضاف أن التأجيل المتكرر لقواعد مكافحة إزالة الغابات كان «مثالاً صارخاً على تراجع قدرة أوروبا على تشكيل العالم وفقاً لرؤيتها». وبذلك، أصبح هذا القرار رمزاً لإعادة تقييم أوسع لنفوذ الاتحاد الأوروبي على قطاع الأعمال والعالم.

لقد ولى الحماس الذي ساد بين عامي 2019 و2024، عندما أثمرت ولاية أورسولا فون دير لاين الأولى كرئيسة للمفوضية الأوروبية عن كم هائل من اللوائح الجديدة. وعبر وضع قيود للحد من التلوث، ومتطلبات خصوصية على الإنترنت، والتزامات شاملة بحقوق الإنسان لشركات الاتحاد الأوروبي وحتى مورديها في الخارج - تحركت بروكسل وكأنها قادرة على إعادة تشكيل العالم. لكن ولاية فون دير لاين الثانية تتسم بنبرة مختلفة تماماً: فقد تم تخفيف بنود الصفقة الخضراء، وأصبح «تبسيط» الإجراءات التنظيمية رائجاً، فيما تتجه الاستثمارات بشكل أساسي إلى قطاع الدفاع الأوروبي.

وكانت أنو برادفورد، أستاذة القانون بجامعة كولومبيا، صاغت مصطلح «تأثير بروكسل» عام 2012، مستلهمة إياه من «تأثير كاليفورنيا»، حيث تبنت دول أخرى، بمرور الوقت، القواعد البيئية التي وضعتها كاليفورنيا كأقوى اقتصاد بين الولايات في أمريكا.

وقالت برادفورد، التي نشر كتابها «تأثير بروكسل: كيف يحكم الاتحاد الأوروبي العالم» عام 2020، في ذروة النفوذ الأوروبي، إن الشركات متعددة الجنسيات تبنت قواعد الخصوصية على الإنترنت أو اللوائح الكيميائية كشرط للتجارة مع أوروبا، ما دفع دولاً خارج الاتحاد الأوروبي إما إلى تبني معايير التكتل أو الاعتراف بها. لكن تأثير بروكسل هذا يخضع الآن «للاختبار»، على حد قولها، حيث «تقاوم الولايات المتحدة بقوة لوائح الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي تتضاءل فيه ثقة الاتحاد الأوروبي نفسه في أجندته التنظيمية». وأضافت برادفورد أن قدرة الاتحاد الأوروبي على تهيئة البيئة التنظيمية للتكنولوجيا الرقمية قد تضاءلت مقارنة بقوانين حماية البيانات العامة، حين أسهم الاتحاد في وضع قواعد عصر الإنترنت الأول. وفي هذا العصر الجديد، يواجه قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي - الذي علقت بروكسل العمل به جزئياً - وقانون الأسواق الرقمية، الذي يهدف إلى كبح جماح احتكارات عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، صعوبة في اكتساب الزخم نفسه.

ويحذر الخبراء من أن مثل هذه التشريعات لا تعتبر ذات توجه حمائي فحسب، بل عفا عليها الزمن أيضاً في عالم بات فيه الاتحاد الأوروبي - الذي فشل في إنشاء عمالقة تكنولوجيا عالمية خاصة به - لاعباً هامشياً بشكل متزايد.

وقالت ديوتي بانديا، المحللة في المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي والمتخصصة في تقاطع القانون والتكنولوجيا، إن الاتحاد الأوروبي قد طبق عقلية «عصر الإنترنت» على عالم الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، الذي يتسم بتطوره السريع وتقلباته الكبيرة.

وفي مجالي المواد الكيميائية والأجهزة الطبية - وهما مجالان أرست فيهما جولات سابقة من لوائح الاتحاد الأوروبي معايير عالمية - واجهت المفوضية صعوبة في تطبيق معظم قواعد الجيل الجديد. وتأخر تطبيق لائحة الاتحاد الأوروبي الجديدة للأجهزة الطبية ولائحة أجهزة التشخيص المختبري، اللتين طرحتا في أوائل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لتحديث لوائح الأجهزة الطبية، بسبب نقص القدرات لدى هيئات إصدار الشهادات.

ومنذ إطلاق مجموعتي لوائح الأجهزة، انخفض عدد كبار مصنعي الأجهزة الطبية الذين صرحوا بأن الاتحاد الأوروبي هو المكان الذي سيطلقون فيه منتجاتهم الجديدة أولاً من 73 % إلى 39 %، وذلك وفقاً لدراسة استقصائية أجرتها «ميد تيك يوروب» عام 2024. وتجري مقارنة بين تأثير بروكسل القوي الذي كان جلياً في مجال الصناعة خلال العقود الماضية، حيث كانت علامة «CE» الأوروبية لضمان الجودة مقبولة على نطاق واسع كدليل على موثوقية المنتج في مختلف الدول، وبين الوضع الحالي الأكثر تعقيداً.

وتقول صناعة الكيماويات إنها واجهت إحباطات مماثلة إزاء خطط الاتحاد الأوروبي لمراجعة لائحة «ريتش» الخاصة بالمواد الكيميائية، بهدف دفع الصناعة نحو خفض انبعاثات الكربون وتنظيم المخاطر البيئية مثل المركبات التي تُعرف باسم «المواد الكيميائية الأبدية».

وهكذا، يتمثل التحدي الذي يواجه أوروبا اليوم في إيجاد توازن جديد يحافظ على قوة «تأثير بروكسل» أو حتى يعززها. ويقول المحللون إنه بدلاً من إصدار قواعد أكثر تعقيداً وتوقع امتثال الآخرين لها، ستحتاج بروكسل إلى بناء تحالفات حول معايير قد تظل جذابة في عالم أكثر اضطراباً.

وبعبارة أخرى، يعتقد المتفائلون أن هجوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على النظام العالمي القائم على القواعد يتيح فرصة للاتحاد الأوروبي ليكون مرجعاً أساسياً في وضع القواعد. ويستشهدون، كدليل على النجاح، بحقيقة أن كندا والمكسيك والبرازيل واليابان وأستراليا والهند ومعظم دول جنوب شرق آسيا قد تبنت قواعد إما تنسخ أو تحاكي عناصر من قانون الأسواق الرقمية، وذلك وفقاً لبحث أجراه مركز تحليل السياسات الأوروبية.

وتقدم آلية تعديل حدود الكربون الجديدة للاتحاد الأوروبي، التي تدخل حيز التنفيذ في يناير، مثالاً آخر على استمرار تأثير بروكسل، حيث تسرع اقتصادات رائدة أخرى، بما فيها البرازيل والصين واليابان، من تطبيق ضرائب الكربون الخاصة بها استجابةً لذلك.

ويقول آدم بيرمان، مدير السياسات في«إنيرجي يو كيه» وهي جماعة ضغط صناعية: «هناك أدلة واضحة على أن آلية تعديل حدود الكربون أصبحت بالفعل أداة فعالة لحث الدول ذات الانبعاثات الأكبر على تطبيق أنظمة تسعير الكربون الخاصة بها». ويضيف أن قرار المملكة المتحدة بتطبيق هذه الآلية اعتباراً من عام 2027 يعد بحد ذاته مثالاً على تأثير بروكسل.

وتقول «ميد تيك يوروب» إنه إذا نجح الاتحاد الأوروبي في ترشيد نهجه التنظيمي - من خلال دمج القواعد الحالية مع قانون الذكاء الاصطناعي - فقد يعاد إحياء «تأثير بروكسل». وتضيف: «إذا تمكن الاتحاد الأوروبي من ضبط هذه التفاصيل بشكل صحيح، فإن «تأثير بروكسل» في مجال الذكاء الاصطناعي قد يعزز دور أوروبا كقائدة عالمية في الابتكار».

ويرى رئيس الوزراء الإيطالي السابق، إنريكو ليتا، مؤلف تقرير صدر عام 2024 بتكليف من الاتحاد الأوروبي لتنشيط السوق الموحدة، أن أوروبا تواجه الآن لحظة حاسمة. فمن جهة، تعتبر إدارة ترامب كل تنظيم جديد صادر من أوروبا بمثابة «الثوم لدراكولا»- الثوم ودراكولا مرتبطان في الفولكلور القديم حيث كان يُعتقد أن الثوم يطرد مصاصي الدماء، ومن جهة أخرى، حفزت عودة ترامب إلى البيت الأبيض الاتحاد الأوروبي على المضي قدماً في إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع دول ميركوسور والمكسيك والهند وإندونيسيا، ما أتاح إمكانية إظهار قدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على نفوذه التنظيمي.