مارتن أرنولد ــ باولا تاما
لا يحتاج المسؤولون في بروكسل، الذين يؤيدون تبسيط الرقابة على أسواق رأس المال في الاتحاد الأوروبي، إلا إلى النظر إلى لوكسمبورغ المجاورة لفهم سبب فشل هذا المشروع.
ولخص كلود ماركس، رئيس هيئة الرقابة المالية في لوكسمبورغ، موقف بلاده بقوله في تصريحات لصحيفة فايننشال تايمز إن مركزية الرقابة «ستخلق وحشاً» ولن تسهم كثيراً في حل مشاكل التمويل.
وأضاف رئيس لجنة مراقبة القطاع المالي في لوكسمبورغ: «لدينا اختلافات إقليمية، واختلافات لغوية، واختلافات ثقافية، ومنتج ادخاري في جنوب إسبانيا لا يُشبه بالضرورة منتجاً ادخارياً في شمال فنلندا أو اليونان. لذا، إذا أردنا بناء رقابة مركزية على هذا فسيكون جهازا ضخما للغاية».
وكان جيل روث، وزير مالية لوكسمبورغ، منتقداً للأمر بالقدر نفسه. وقال: «لن يؤدي المزيد من المركزية، في رأينا، إلى توفير تمويل إضافي لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، وسيستغرق الأمر وقتاً، بل وسيترتب عليه تكاليف على الشركات لتطبيق هيكل مؤسسي جديد. وسيؤدي ذلك أيضاً إلى تقويض القدرة التنافسية».
ويبدو من غير المعقول أن تعرقل إحدى أصغر الدول الأعضاء، والتي لا يتجاوز عدد سكانها 1% من عدد سكان ألمانيا، هدفاً رئيسياً من أهداف سياسة الاتحاد الأوروبي. ولكن في هذه القضية، كان لصوت لوكسمبورغ الكلمة الفصل، خاصة وأنه جاء مدعوماً بدول صغيرة أخرى، مثل أيرلندا ومالطا وقبرص، التي تتحد في عدم ثقتها بالإصلاحات التي تُقلص صلاحيات هيئات الرقابة الوطنية.
وقال مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي: «نجحت لوكسمبورغ في تنظيم مقاومة قوية ضد الرقابة المركزية». وتكمن المفارقة هنا في أن أكثر الجهود تنسيقاً لدمج الأسواق المالية الأوروبية انطلقت على يد جان كلود يونكر، رئيس وزراء دوقية لوكسمبورغ الكبرى الأطول خدمة، بعد تعيينه رئيساً للمفوضية الأوروبية عام 2014.
ومنذ أن وعد يونكر بإنشاء «اتحاد أسواق رأس المال» لتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الإقراض المصرفي من خلال تعزيز تمويل اقتصاده عبر الأسواق المالية، لم يحقق المشروع سوى بعض التقدم الطفيف.
ويقول مسؤولون تنفيذيون ومحللون إن اللوم قد يُلقى على عاتق جهات عديدة. لكن يعتقد كثيرون أن أحد الأسباب الرئيسية هو رفض الدول الأعضاء التخلي عن سيطرتها على أسواقها الوطنية، وهي مقاومة تجسدها لوكسمبورغ بوضوح.
ويقول نيكولا فيرون، الخبير الاقتصادي في مركز بروجيل للأبحاث في بروكسل، والذي ألف كتباً عدة عن النظام المالي الأوروبي: «في النقاش حول اتحاد أسواق رأس المال الأوروبي، تبرز فكرة التكامل الإشرافي، التي وقفت لوكسمبورغ معارضة لها بشدة.
ويبدو أن هذا الإجراء قد نجح في تقويض فكرة تكامل الرقابة على السوق عبر التعاون مع دول صغيرة نسبياً مثل أيرلندا وبلجيكا».
وتشكل الخدمات المالية 25 % من اقتصاد لوكسمبورغ، مدفوعةً بقطاع صناديق الاستثمار الضخم الذي يدير أصولاً تزيد قيمتها على 7.3 تريليونات يورو، وهو الأكبر في أوروبا. وقد ساعدها ذلك على أن تصبح واحدة من أغنى دول العالم، حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها حوالي 150 ألف دولار.
وتعد اللوائح التنظيمية المواتية للسوق في البلاد، إلى جانب نظامها الضريبي الميسر، عوامل جذب كبيرة للخدمات المالية. ويقول المحللون إن هذا هو السبب الذي يجعل المسؤولين ينظرون إلى فكرة الرقابة المركزية للاتحاد الأوروبي على أنها تهديد.
ورغم تعثر التقدم في مساعيها التي استمرت عقداً من الزمن لدمج الأسواق المالية، سعت بروكسل إلى إعادة إحياء المشروع. وقد أعيدت تسميته «اتحاد الادخار والاستثمار»، مع الكشف هذا الشهر عن اقتراح لتوسيع نطاق الإشراف المركزي في مجالات مُحددة.
وجاءت الفكرة كاختبار آخر لقدرة دول الاتحاد الأوروبي على تجاوز خلافاتها الوطنية لصالح تحقيق المزيد من المنافع المشتركة.
وقد تكررت الدعوات، بما في ذلك من رئيسي البنك المركزي الأوروبي السابقين - ماريو دراجي وكريستين لاغارد - لتوحيد قواعد سوق رأس المال المُجزأة في المنطقة من خلال نقل صلاحيات الإشراف من الهيئات التنظيمية الوطنية إلى الهيئة الأوروبية للأوراق المالية والأسواق.
وفي ظل الوضع الراهن، لا تُشرف الهيئة الأوروبية للأوراق المالية والأسواق، ومقرها باريس، بشكل مباشر إلا على عدد قليل من الكيانات، مثل وكالات التصنيف الائتماني، وغرف المقاصة المركزية للأطراف المقابلة من خارج الاتحاد الأوروبي، ومستودعات التوريق، ومديري المؤشرات المرجعية.
لكن بروكسل سعت لزيادة صلاحياتها بشكل كبير لتشمل البورصات العابرة للحدود، ومزودي الأصول المشفرة، ومراكز إيداع الأوراق المالية المركزية، وغرف المقاصة.
ومن المأمول جعل هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية أقرب إلى نظيرتها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، لكن يستدعي ذلك قيام المفوضية الأوروبية بتفعيل تنسيق القواعد في جميع أنحاء دول الاتحاد الـ27، فضلاً عن تشجيع توحيد البنية التحتية المجزأة للسوق بالمنطقة.
وتضم أوروبا أكثر من 35 بورصة مختلفة، إضافة إلى 17 جهة مركزية منفصلة للمقاصة و28 مركزاً مركزياً لإيداع الأوراق المالية لتسوية الصفقات، مقارنةً بعدد قليل فقط من هذه الجهات في الولايات المتحدة، وفقاً لمجموعة الأبحاث «نيو فاينانشال».
وتدافع حكومات الاتحاد الأوروبي وهيئاته التنظيمية بشدة عن قدرتها على الإشراف على كبار مشغلي الأسواق، مثل شركة التسوية «كليرستريم» في لوكسمبورغ.
وقد تجلى ذلك بوضوح في النقاش الدائر حول تمويل أوكرانيا باستخدام 185 مليار يورو من الأصول الروسية المجمدة لدى «يوروكلير»، مركز إيداع الأوراق المالية المركزي في بروكسل، الأمر الذي وضع بلجيكا في موقع محوري بصفتها الجهة الرقابية للشركة.
ويؤدي تباين الأسواق الوطنية في الاتحاد الأوروبي - إلى جانب ميل كل دولة إلى تكييف القواعد الموضوعة في بروكسل بما يخدم مصالحها الخاصة – إلى جعل الأسواق المالية الأوروبية أكثر تكلفة وأقل سيولة من نظيرتها الأمريكية. قالت ماريا لويس ألبوكيرك، مفوضة الاتحاد الأوروبي للخدمات المالية: «لا يزال النهج المتبع في هذه القضايا وطنياً في المقام الأول، بدلاً من النهج الأوروبي».
وقد لخص المستشار الألماني فريدريش ميرز مؤخراً الإحباط المتزايد حيال هذه القضية بدعوته إلى إنشاء بورصة أوروبية موحدة قادرة على خلق «سوق رأس مال واسعة وعميقة بما يكفي» لتلبية الاحتياجات التمويلية للمنطقة.
وتشعر العديد من مجموعات الخدمات المالية ذات العمليات الواسعة في أوروبا بالحيرة نفسها إزاء العوائق التنظيمية التي تحول دون تقديم الخدمات المالية العابرة للحدود في المنطقة. وأعرب بن بوت، الرئيس الدولي للسياسات العامة والشؤون الحكومية في بنك نيويورك الأمريكي، عن استيائه من قواعد الاتحاد الأوروبي التي تلزم الصناديق بتعيين جهة إيداع لحفظ أصولها في كل دولة تعمل بها. وقال بوت: «لو أردنا خدمة الصناديق في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، لكان لزاما علينا إنشاء 27 كياناً مختلفاً، واحدا في كل دولة، لعدم وجود إمكانية لتقديم خدمات الإيداع عبر الحدود». وأضاف أن البنك اضطر إلى إنشاء مكاتب في 10 دول أوروبية.
رغم ذلك، لا يقتنع الجميع بأن لوكسمبورغ هي السبب الرئيسي لفشل أوروبا في دمج أسواقها المالية، أو أن إنشاء جهة إشرافية موحدة سيحل العديد من مشاكل التمويل في المنطقة. فلطالما اشتكى المقرضون في منطقة اليورو من أن افتقار التكتل إلى نظام تأمين ودائع موحد قد أعاق إنشاء سوق مصرفية موحدة حقيقية. ويصطدم هذا الهدف طويل الأمد برفض ألمانيا تقاسم المخاطر مع البنوك الإيطالية ما لم تقبل روما بوضع حد أقصى لحجم الدين السيادي المحلي الذي يمتلكه المقرضون.
وذكرت رابطة أسواق المال في أوروبا في تقرير حديث أن 225 مليار يورو من رأس المال و250 مليار يورو من السيولة مقيدة بسبب العوائق الوطنية التي تكبل الأنشطة المصرفية العابرة للحدود في الاتحاد الأوروبي.
وقال آدم فاركاس، الرئيس التنفيذي للرابطة: «إن التشتت القانوني والتنظيمي هو القاتل الصامت لأوروبا». ويشير الخبراء إلى نقاط ضعف أخرى، منها غياب صناديق التقاعد الخاصة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا، أو الاختلافات بين قوانين الإعسار الوطنية.
ويلقي البعض باللوم على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ترك التكتل بدون مركز مالي رئيسي.
وقال اللورد جوناثان هيل، الذي عمل على اتحاد أسواق رأس المال بصفته مفوضاً أوروبياً للخدمات المالية: «لم تعد بريطانيا المركز المالي للاتحاد الأوروبي، ولا يوجد لدى أوروبا الآن مركز آخر، وهو ما يزيد من صعوبة مهمة دمج أسواق رأس المال». ويعد التعقيد الكبير للتنظيم المالي في الاتحاد الأوروبي عاملاً آخر.