ما الذي يعنيه تحقيق الصين فائضاً تجارياً بقيمة تريليون دولار؟

في سعيها نحو الهيمنة الصناعية والتكنولوجية عالمياً، تواصل الصين تحقيق إنجازات بارزة؛ ففي أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تجاوزت ألمانيا واليابان، لتصبح أكبر مصدّر للسيارات في العالم، وفي يناير، فاجأت شركة «ديب سيك» الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، ومقرها هانغتشو، شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى بنموذج لغوي كبير منخفض التكلفة، وشهد هذا الأسبوع حدثاً بارزاً آخر، عندما كشفت بيانات الجمارك الرسمية أن الفائض التجاري الصيني في السلع تجاوز رقماً قياسياً، بلغ تريليون دولار في أول 11 شهراً فقط من العام الجاري.

فما الذي يعنيه هذا الإنجاز الأخير؟ للوهلة الأولى يبرز هذا الإنجاز حجم وفعالية استراتيجية بكين الصناعية، فقد دأبت البلاد على إنتاج كميات هائلة من السلع المطلوبة عالمياً، بدءاً من العناصر الأرضية النادرة وصولاً إلى المنتجات عالية التقنية، التي تزداد انتشاراً الآن، مثل السيارات الكهربائية والتقنيات الخضراء، وهذا يعني أنه حتى مع زيادة الولايات المتحدة للحواجز التجارية في السنوات الأخيرة تمكن المنتجون الصينيون من اقتحام أسواق أخرى في أوروبا والعالم النامي.

في المقابل يبرز الحجم الهائل للفائض أيضاً تفاقم الضغوط على النموذج الاقتصادي الصيني، إذ لا يزال الطلب المحلي ضعيفاً، ولا تزال الأسر تعاني من تداعيات تباطؤ قطاع العقارات، بعدما فشلت الحوافز الحكومية حتى الآن في تحقيق انتعاش مستدام في إنفاق المستهلكين. ونتيجة لذلك أصبح القطاع الصناعي الصيني يعتمد بشكل متزايد على الطلب الخارجي لاستيعاب إنتاجه الهائل من السلع منخفضة السعر، ومع تزايد وعي الشركاء التجاريين بالتهديد، الذي تشكله الواردات الصينية الرخيصة على قواعدهم الصناعية المحلية، يكمن الخطر في أن قدرة بكين على الوصول إلى المستهلكين الأجانب قد تضيق.

وبعد زيارته بكين الأسبوع الماضي حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن الاتحاد الأوروبي قد يجد نفسه مضطراً إلى اتخاذ «تدابير صارمة»، لمعالجة اختلال التوازن التجاري المتزايد مع الصين، ويقتدي بما تقوم به أمريكا، ورغم إقبالها الحالي على السلع الصينية الرخيصة تفكر بعض الأسواق الناشئة في اتخاذ خطوات لحماية أسواقها هي الأخرى، كما ستتزايد الضغوط على الصين لإعادة تقييم سعر صرفها، وعلى شركاتها لمشاركة الملكية الفكرية كونه شرطاً لتأسيس أعمالها في الخارج، في محاولة منها للحفاظ على إمكانية الوصول إلى الأسواق الأجنبية.

مع ذلك فإن الرقم الضخم البالغ تريليون دولار سيثير قلق العواصم الغربية أكثر بكثير مما يقلق بكين، فهو يسلط الضوء على مدى تخلف القدرة الإنتاجية الغربية، ومدى النفوذ الذي راكمته الصين في القطاعات والتقنيات الحيوية، وبينما تواجه بكين اتهامات مستمرة بممارسات تجارية غير عادلة فقد قوض الغرب في الوقت نفسه مكانته.

لقد كانت أوروبا بطيئة بلا شك في تقليص البيروقراطية، وخفض تكاليف الطاقة، وتسريع تبني التكنولوجيا، وهو ما كان من شأنه أن يعزز قدرتها التنافسية، كما أن الجهود المبذولة لتعميق العلاقات التجارية خارج نطاق الشركاء التقليديين فاترة، وهو ما حد من فرص بناء الحجم والمرونة، وقد أدى تبني الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشعار «أمريكا أولاً» إلى مفاقمة هذه التحديات.

يعني ذلك أن الفائض التجاري الضخم للصين يشكل تحذيراً لكلا الطرفين، بالنسبة لبكين يعيد هذا الأمر التأكيد على الحاجة الملحة إلى إنعاش الطلب المحلي، ليس فقط لتجنب دوامة انكماشية مدفوعة بالفائض في الطاقة الإنتاجية، ولكن أيضاً لتقليل اعتمادها المتزايد على المستهلكين الأجانب، وبالنسبة للغرب وأوروبا تحديداً يعزز هذا الأمر الحاجة إلى صياغة استراتيجية تجارية وصناعية موثوقة وطويلة الأمد.

وفيما تتجلى بوضوح مخاطر الإغراق أو الأمن الصيني تبرز الحاجة إلى تدابير مضادة سريعة ومنسقة، ومثلما يظهر هذا الإنجاز الأخير للصين قوتها الصناعية وانحدار الغرب، فإنه، وقبل كل شيء، يبرز اختلالاً تجارياً، تزداد صعوبة تحمله من كلا الجانبين.