العودة القوية لأسهم عمالقة التكنولوجيا تعزز صعود «وول ستريت»

روبرت أرمسترونج - أيدن رايتر - هاكيونج كيم

هيمنت الأسهم العالمية على المشهد الاستثماري خلال العام الجاري، متفوقةً على نظيرتها الأمريكية، وهي حقيقة باتت راسخة إلى حد بعيد. ومع ذلك، يلاحظ المتابع للأسواق أن الأسهم الأمريكية، ممثلةً بمؤشر ستاندرد آند بورز 500، قد نجحت في تقليص هذه الفجوة بدرجة كبيرة خلال الفترة الأخيرة.

فقد سجّل المؤشر عودة قوية بعائد بلغ نحو 7% خلال مايو، مدفوعاً في الأساس بأداء شركات التكنولوجيا الكبرى. إذ استحوذت سبعة أسهم فقط على ما يقرب من ثلثي المكاسب، وهي: إنفيديا، ومايكروسوفت، وميتا، وبرودكوم، وأمازون، وتسلا، وألفابيت. وقد أضافت هذه الشركات مجتمعة نحو 2.4 تريليون دولار إلى القيمة السوقية خلال الفترة نفسها.

ويُشار إلى هذه المجموعة عادة باسم «السبع الرائعة»، مع ملاحظة تغيير طفيف في تشكيلتها التقليدية، حيث حلت برودكوم محل أبل التي تراجعت بفعل تداعيات الحرب التجارية والتعريفات الجمركية.

وللمفارقة، تعود عمالقة التكنولوجيا لتلعب دورها المعهود في رفع المؤشر، فلو جردنا السوق من هذه المجموعة السباعية المعدلة، لانكمشت نسبة الارتفاع إلى حدود متواضعة لم تتجاوز 3 بالمئة في مايو، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جوهرياً: كيف ينبغي قراءة هذا التوزيع غير المتكافئ للمكاسب في الأسواق؟

تتباين الرؤى هنا بشكل واضح، فأصحاب النظرة التشاؤمية يرون أن ارتفاعات السوق المحصورة في نطاق ضيق من الأسهم تفتقر للاستدامة وتنذر بالخطر، بينما يذهب المتفائلون، ومنهم ماريون لابور من دويتشه بنك، إلى أن شركات التكنولوجيا العملاقة تلعب دوراً قيادياً، إذ تؤكد في تحليلها: «كما جرت العادة، سيشكل أداء السبع الكبار على الأرجح مؤشراً حاسماً لقياس المزاج العام للمستثمرين تجاه المخاطرة».

ويكمن سر جاذبية «السبع الرائعة» في المزايا الاستثنائية التي طالما تميزت بها، فباستثناء تسلا، تتفرد هذه الشركات بمقومات استثمارية فائقة تتمثل في حواجز دخول شديدة الارتفاع، وتدفقات نقدية حرة وفيرة، فضلاً عن معدلات نمو مستدامة وقوية. ورغم ارتفاع تقييماتها السعرية (حيث تتداول جميعها، باستثناء ألفابيت، بعلاوات سعرية كبيرة مقارنة بالسوق الأمريكي الذي يعاني بدوره من ارتفاع التقييمات)، إلا أنه يصعب العثور على شركات بهذا الحجم والوضع التنافسي نفسه.

غير أن الأداء المتميز الذي حققته هذه الشركات مؤخراً لا ينبع من تحسن توقعات نموها المستقبلية، فكما يتضح من البيانات المتاحة، لم تشهد تقديرات أرباح المجموعة مراجعات تصاعدية ملموسة، بل إن بعضها شهد تخفيضاً في التوقعات.

ونقر هنا بأننا نشعر بالحيرة إزاء هذه الظاهرة، فربما يعود أداء سهم تسلا - رغم التخفيض الحاد في توقعات أرباحها - إلى قرار إيلون ماسك الانسحاب من المناصب الحكومية والتركيز على أعماله التجارية، وخصوصاً أن هذا السهم لم يخضع يوماً لمنطق التداول المرتبط بالأساسيات المالية التقليدية.

أما بقية الأسهم، فقد تستجيب - كأسهم عالمية - لاحتمالية تهدئة التوترات التجارية بين واشنطن وبكين، والإدراك بأن تهديدات ترامب تتجاوز دائماً إجراءاته الفعلية. لكن هذا التفسير يثير تساؤلاً منطقياً: إذا كان الأمر كذلك، ألا يفترض أن تكون الشركات المعتمدة على السلع والبعيدة عن قطاع التكنولوجيا هي الخيارات الاستثمارية الأوضح؟

من زاوية أخرى، وبعد ما يزيد على شهرين من «يوم التحرير»، يمكننا تأمل التحولات التي شهدتها الأسواق المالية. ولعل أبرزها ظاهرة لافتة تتمثل في التزامن غير المعتاد بين ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية وتراجع الدولار، مقابل الفجوة بين عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات ونظيرتها الألمانية، حيث يظهر تباعد واضح بين المسارين.

ورغم تناولنا لهذا الموضوع في مناسبات عدة، إلا أن النقاش حوله ما زال محتدماً، بل إن بعض المحللين ذهبوا إلى اعتباره مؤشراً إلى أن الولايات المتحدة بدأت تتخذ ملامح الأسواق الناشئة. وثمة تحول عميق يجري بالفعل، فسياسات ترامب الجمركية قلصت جاذبية الاقتصاد الأمريكي كوجهة لتدفقات رأس المال العالمية، كما أن اتساع العجز المالي يثير مخاوف جدية.

ويرى يوناس غولترمان من «كابيتال إيكونوميكس» أن مقارنة الولايات المتحدة بالأسواق الناشئة، أو حتى بالمملكة المتحدة، فيه قدر كبير من المبالغة، ويقول: «عندما بدأ ضعف أداء الدولار في أبريل الماضي، ساد شعور بأننا قد نشهد أزمة شبيهة بما عُرف بـ«اقتصاد ليز تراس» في بريطانيا، لكن هذه التوقعات تلاشت سريعاً مع انتعاش الأسواق لاحقاً.

وصحيح أن التباعد بين الدولار والعائد ما زال قائماً بل يتسع، ويتفاعل مع الأخبار المتعلقة بالتجارة والمشهد المالي، ويرتبط بسياسات الإدارة الحالية إلى حد ما، إلا أننا لسنا أمام أزمة حقيقية، وبالتأكيد ليست الأحوال مماثلة لما شهدته بريطانيا في عهد ليز تراس.

ولم تشهد الأسواق تحولاً جذرياً بعيداً عن الأصول الأمريكية، فرغم ضعف مزادين لسندات الخزانة - أحدهما بعد «يوم التحرير» مباشرة، والآخر في أواخر مايو - سارت بقية المزادات بوتيرة طبيعية، بل ارتفعت التدفقات الأجنبية نحو مؤشر «إس آند بي 500» بشكل ملحوظ.

ويؤكد هذا الاتجاه ما ورد في محضر الاجتماع الأخير لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، حيث أشار المدير المسؤول عن متابعة حركة التدفقات المالية إلى «غياب أي دليل يشير إلى قيام المستثمرين الأجانب ببيع كميات جوهرية من الأصول الأمريكية، بل تظهر البيانات المتاحة تدفقات خارجة متواضعة من أدوات الدخل الثابت قابلها إلى حد كبير تدفقات وافدة نحو أسواق الأسهم».

كذلك، فإن المبالغة في تقدير ارتفاع عوائد السندات الأمريكية تجانب الواقع، فرغم أن تزامن تراجع الدولار مع صعود عوائد سندات الخزانة يمثل ظاهرة غير معتادة، إلا أن حركة صعود العوائد تشمل أسواق السندات في مختلف الاقتصادات المتقدمة، وهو ما يؤكده روبن بروكس من معهد بروكينغز بقوله: «لا أعتقد أن ارتفاع العوائد الحالي يقترب ولو من بعيد مما شهدته المملكة المتحدة من انهيار في أسواق السندات خلال فترة ليز تراس، فما نشهده الآن يختلف تماماً، حيث ترتفع مستويات العوائد في الولايات المتحدة، لكنها ترتفع أيضاً في كل مكان... وتظل فروق العائد مستقرة نسبياً». وتدعم البيانات هذا التحليل، حيث تقلصت الفجوات بين عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات ونظيراتها في الاقتصادات الأخرى خلال الفترة الأخيرة.

وبالنظر للوراء، يمكن تحديد عاملين رئيسين وراء التحول الملحوظ في قيمة الدولار، بخلاف التغيرات الهامشية في التدفقات الأجنبية. العامل الأول يتمثل في استراتيجيات التحوط، وهو ما يشرحه إد الحسيني من مؤسسة كولومبيا ثريدنيدل قائلاً: «عندما يستثمر الأجانب في الأصول الأمريكية، فإنهم يشترون في الأساس تدفقات نقدية مستقبلية، لكن هذه التدفقات تبقى دائماً عرضة لتقلبات أسعار الصرف، فإذا أخذ الدولار في الضعف، فإن ذلك يقلص قيمة هذه التدفقات، وكمستثمر، فإنك لا ترغب في التعرض لمخاطر تقلبات الدولار، ولا تحبذ تكبد خسائر ناجمة عن تراجع قيمته».

ويلجأ المستثمرون عادة إلى استراتيجية التحوط عبر إبرام عقود آجلة، فلنفترض أن مستثمراً يرغب في شراء الوون الكوري واستثماره في الأسهم الأمريكية، فإنه يدخل في عقد لشراء الوون الكوري بسعر صرف محدد مسبقاً في المستقبل، وبذلك يتفادى مخاطر تقلب العملات بشكل كامل، غير أن إبرام هذه العقود يضع ضغوطاً هبوطية على الدولار، إذ تنطوي العملية على بيع الدولارات وشراء الوون في سوق العقود المستقبلية.

والعامل الثاني وراء تراجع الدولار يتمثل في إعادة تقييم شاملة للاقتصاد الأمريكي، فبالعودة إلى الوراء، نتذكر جميعاً القوة الاستثنائية التي تمتع بها الدولار قُبيل «يوم التحرير»، ومع توسيع الإطار الزمني للنظر، يتضح أن الدولار ما زال يتمتع بقوة نسبية حتى الآن.

ولسنوات طويلة، تفوق معدل النمو الاقتصادي الأمريكي على نظيره في بقية العالم المتقدم، غير أن توقعات النمو باتت أكثر اعتدالاً في الفترة الأخيرة، فضلاً عن أن دولاً أخرى شرعت في توسيع سياساتها المالية التوسعية. وتشير موجة ارتفاع العملات الأجنبية مؤخراً - والتي كانت الأكثر وضوحاً في تايوان - إلى أن البنوك المركزية حول العالم بدأت التكيف مع هذا النموذج الجديد.

بيد أن هذا التعديل ينطلق من نقطة ربما كان فيها الدولار مبالغاً في قوته أصلاً، أما ما يتعلق بالعجز، فالبيانات الاقتصادية الأمريكية ما زالت تظهر مؤشرات صحية، فمعدلات الضرائب الأمريكية تظل منخفضة وفق المعايير الدولية، ما يتيح هامشاً واسعاً لزيادة الإيرادات إذا اقتضت الضرورة ذلك.

وختاماً، لا يمكن بأي حال من الأحوال تصنيف الولايات المتحدة ضمن الأسواق الناشئة، كما أنه ليس ثمة ما يشير إلى وقوع أزمة شبيهة بما شهدته بريطانيا في عهد ليز تراس، بل يمكن وصف ما يجري بأنه عودة تدريجية للأوضاع الطبيعية.