عودة قوية لحقول النفط البحرية.. فماذا عن التأثيرات البيئية؟

مايلز ماكورميك - جيمي سميث
على بعد نحو 150 ميلاً جنوب شرقي مدينة نيو أورلينز الأمريكية، تشكل منصة «فيتو» التابعة لشركة شل رمزاً للابتكار في الحفر البحري. وتعد هذه المنشأة، التي تقاوم أمواج خليج المكسيك الهائجة، نقطة تحول في تعامل قطاع النفط والغاز مع مستقبل التنقيب.

وصف إيرتي أوموتوسو، المدير العام لأصول النمو في الولايات المتحدة بشركة شل، «فيتو» بأنها «تمثل مستقبل شل في خليج المكسيك»، مشيراً إلى أنها تتميز بالسرعة والكفاءة؛ وتقدم حلولاً تقنية مبتكرة بفعالية أكبر وتكلفة أقل.

«فيتو» ليست مجرد منصة، بل هي جزء من جيل جديد من المنشآت المتطورة التي تعتمدها الصناعة لتعزيز الحفر في المياه العميقة، حيث تستخدم هذه المنشآت في عمليات الحفر في المياه التي يزيد عمقها على 150 متراً، مع توقع استمرار الطلب القوي على الهيدروكربونات لعقود مقبلة.

وتتبنى الصناعة اليوم رؤية جديدة تركز على تقنيات تقلل من التكلفة العالية للحفر البحري وتخفض الانبعاثات بشكل كبير، مما يجعل الحفر العميق أكثر استدامة وجاذبية للمستثمرين.

يشهد الحفر البحري اهتماماً متزايداً، ما يمثل نقطة تحول لمصدر نفطي كان قد تراجع دوره بعد حوادث كارثية وأسعار منخفضة، إلى جانب بروز طفرة الغاز الصخري في الولايات المتحدة.

لكن الحفر في أعماق البحر عاد للواجهة مجدداً. فقد تباطأ النمو السريع للغاز الصخري، وأصبح البحث عن مصادر جديدة للنفط والغاز هدفاً رئيسياً.

كما أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز، وهو ما زاد السيولة لدى الشركات العاملة في هذا القطاع. وفي الوقت نفسه، عادت الحكومات تعطي الأولوية لأمن الطاقة على حساب أهداف المناخ، مما يشجع على زيادة الاستثمار في الحفر البحري.

كل ذلك دفع القطاع والمستثمرين إلى دعم مشاريع جديدة، وتسريع الاستكشاف في مناطق جديدة مثل أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، والبحث في أعماق البحر عن اكتشافات جديدة.

وتشير بيانات «ريستاد» إلى أن الاستثمارات في الحفر البحري ستصل إلى 104 مليارات دولار هذا العام، بزيادة 50% مقارنة بعام 2020، مع توقعات بأن يرتفع الرقم إلى 140 مليار دولار بحلول 2027.

وهذه الطفرة عززت الطلب القوي على المعدات، لذلك، ارتفعت أسعار تأجير منصات الحفر العام الماضي إلى أعلى مستوى منذ تسع سنوات، وفقاً لـ «ريج لوجيكس».

لكن الصناعة تواجه تحديات من المدافعين عن البيئة الذين يشعرون بالقلق من أن تأمين مليارات البراميل الإضافية من الإنتاج سيؤدي إلى استمراره لعقود من الزمن.

وبينما يجتمع قادة العالم في قمة الأمم المتحدة للمناخ COP29 في أذربيجان، ترى الجماعات البيئية أن الصناعة تتجاهل الالتزامات التي قطعتها الحكومات للتحول بعيداً عن الوقود الأحفوري.

وتتهم هذه الجماعات شل وبي بي بالتلاعب بأهدافهما المناخية، ويشعرون بالقلق من أن الحفر في أعماق جديدة قد يتسبب في كوارث بيئية أخرى مثل كارثة «ديب ووتر هورايزون» عام 2010، التي كانت أسوأ حادث تسرب نفطي بحري في التاريخ وأسفرت عن مقتل 11 شخصاً.

وتتفاقم هذه المخاوف مع إعادة انتخاب دونالد ترامب، الذي وعد بتخفيف القيود البيئية والسماح للشركات بـ «الحفر، الحفر، الحفر». ولكن المحللين يرون أن تأثير ذلك على الإنتاج سيكون ضئيلاً في المدى القريب، حيث إن الشركات التي تركز على الربحية لا ترغب في زيادة الإنتاج بشكل مفرط خوفاً من التأثير على العرض والربحية.

إلا أن الشركات ترى في هذا فرصة هائلة. لذلك، تدور معركة حامية بين إكسون موبيل وشيفرون حول أكبر اكتشاف نفطي في جيل كامل في غيانا بأمريكا الجنوبية.

وتسعى إكسون بكل قوتها لمنع منافستها الأمريكية الأصغر من الحصول على حصة في «كتلة ستابرويك» من خلال استحواذها على شركة هيس بقيمة 53 مليار دولار، التي تمتلك 30% من المشروع.

وتؤكد إكسون، التي تمتلك 45%، حقها في الرفض الأول وقد بدأت بالفعل إجراءات التحكيم. ومن المتوقع أن يحقق المشروع أرباحاً تقدر بحوالي 170 مليار دولار بين 2024 و2040 لإكسون وشركائها. بينما ستحصل غيانا على 190 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وفقاً لتوقعات «وود ماكنزي».

في الوقت نفسه، تبحث شركات النفط الكبرى وبعض شركات النفط الوطنية عن فرص في مناطق جديدة مثل البرازيل وأنغولا.

وفي الشهر الماضي، وافقت توتال إنرجي الفرنسية على مشروع «جران مورغو» في سورينام المجاورة لغيانا بقيمة 10.5 مليارات دولار. أما في ناميبيا، فقد حققت شركات غالاب البرتغالية وشل وتوتال اكتشافات ضخمة أيضاً.

وتمثل عودة الحفر البحري تحدياً جيوسياسياً كبيراً. وخلال الاثني عشر عاماً الماضية، كان الغاز الصخري، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، المحرك الأكبر لنمو إنتاج النفط الغربي، مما جعل الولايات المتحدة أكبر مورد للنفط في العالم.

فيما يتوقع أن يصبح إنتاج النفط من المياه العميقة خلال العام المقبل المحرك الأكبر لنمو إنتاج النفط خارج منظمة أوبك، متجاوزاً النفط الصخري، ليؤدي دوراً حيوياً في استراتيجيات الدول الغربية، خصوصاً في ظل تصاعد حدة التوترات الدولية.

وبالعودة إلى منصة «فيتو»، تعكس غرفة التحكم مدى التطور التكنولوجي الكبير، حيث تعرض بيانات حول الإنتاج والانبعاثات والكفاءة عبر شاشات متعددة. ومع ذلك، تدار العمليات الرئيسية فعلياً من مركز التحكم في نيو أورلينز.

فمن خلال تقنيات الواقع الافتراضي، يتمكن المهندسون من إجراء الفحوصات عن بُعد وتنفيذ التعديلات اللازمة، مما يقلل الحاجة إلى وجود طاقم كبير على متن المنصة. حتى فحوصات الخزانات، التي كانت تتطلب تدخلاً بشرياً، باتت تنفذ بواسطة طائرات مسيرة.

واعتمدت منصة «فيتو» تصميماً أكثر بساطة، بوزن 22.000 طن، وهو أقل بمقدار الثلث من منصة «أبوماتوكس» السابقة لشركة شل. ورغم حجمها الأصغر، تستطيع «فيتو» ضخ 100.000 برميل يومياً، أي ما يعادل 60% من قدرة منصات أكبر.

وقد خفضت هذه التحسينات بشكل ملحوظ متوسط تكلفة تطوير الحقول البحرية، لتتراجع من 14 دولاراً إلى 8 دولارات للبرميل على مدى العقد الماضي، وفقاً لتقديرات «ريستاد». كما مكنت التطورات التقنية الصناعة من استكشاف خزانات أعمق وضغوط أعلى من أي وقت مضى.

على بُعد أكثر من 130 ميلاً من «فيتو»، بدأت «شيفرون» في أغسطس الماضي تشغيل منصتها الجديدة «أنكر»، التي تستخرج النفط من خزان يقع على عمق ستة أميال تحت سطح البحر.

المشروع، بتكلفة 5.7 مليارات دولار، هو الأول عالمياً المصمم لتحمل ضغط يصل إلى 20.000 رطل لكل بوصة مربعة، ما يعادل قوة ضغط هائلة تعادل وزن 650 جرافة متوسطة الحجم.

وتعمل شل وبي بي على إدخال تكنولوجيا الضغط العالي نفسها في الحقول المجاورة في خليج المكسيك، الذي يعد بمثابة ساحة لاختبار التقنيات الجديدة التي يتم نشرها لاحقاً في مواقع مختلفة حول العالم.

وقد انخفضت تكاليف تطوير حقول المياه العميقة بشكل كبير من 14 دولاراً لكل برميل من المكافئ النفطي قبل 10 سنوات إلى 8 دولارات حالياً. لكن هذا النشاط يثير قلقاً في بعض الأوساط.

فصناعة النفط ما زالت تحمل في ذاكرتها كارثة انفجار منصة ديب واتر هوريزون في مشروع ماكوندو لشركة بي بي، حيث تسرب 134 مليون جالون من النفط إلى شمال خليج المكسيك على مدار 87 يوماً.

وقد أسفر ذلك عن مقتل ما يقارب 800.000 طائر بحري وتقليص أعداد حوت «رايس» بشكل كبير.

وقد تسببت تلك الكارثة في إبطاء تقدم أنشطة التنقيب في المياه العميقة، وتفاقمت الأوضاع مع ازدهار النفط الصخري وتراجع الأسعار في 2014. وقال باتريك بوياني، الرئيس التنفيذي لشركة توتال إنرجي: «كان الجميع في حالة حذر كبير، خصوصاً في خليج المكسيك»، مشيراً إلى الغرامات التي اضطرت شركة بي بي إلى دفعها تجاوزت قيمتها 60 مليار دولار.

وتؤكد الصناعة أن التدابير الوقائية قد تم تحسينها بشكل كبير منذ الحادث، بما في ذلك تعزيز إجراءات التحكم في التسربات. ومع ذلك، لا يزال العديد من خبراء البيئة ينتابهم الكثير من الشكوك.

ورغم التحسينات التي تم إدخالها، فإن العديد من التوصيات لم تنفذ بعد. كما يثير عدم تضمين الكونغرس الأمريكي لهذه التوصيات في التشريعات قلقاً من إمكانية التراجع عنها.

وفي مايو 2021، حذرت وكالة الطاقة الدولية من أنه إذا كان العالم يطمح للحد من ارتفاع درجات الحرارة دون 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2050، يجب أن يتوقف استكشاف الوقود الأحفوري الجديد.

وأظهر تقرير صدر الشهر الماضي عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن الانبعاثات وصلت إلى مستوى قياسي في عام 2023، حيث زادت تركيزات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تزيد على 11% خلال 20 عاماً، وهو المعدل الأسرع في تاريخ البشرية.

لكن الصناعة تدافع عن نفسها قائلة إنه طالما أن هناك حاجة للنفط، فإن المنصات الجديدة في المياه العميقة يمكن أن توفر إنتاجاً بتكثيف كربوني أقل بكثير مما كان عليه الحال في السابق.

ويرفض المدافعون عن البيئة هذا الادعاء، مؤكدين أنه لا قيمة للخفض في انبعاثات الإنتاج ما دام الحرق الناتج عن النفط هو المصدر الرئيسي للانبعاثات.

ويضيفون: «الطرح الذي تطرحه الصناعة يكون منطقياً فقط إذا تم إيقاف مشروع في مكان آخر نتيجة لتنفيذ هذه الشركة النفطية الدولية لمشروع منخفض الانبعاثات التشغيلية، ولكن الحقيقة هي أن هذا لا يحدث بالفعل».

وتحذر «كاربون تراكر» من أن الاستثمار في بنية تحتية بحرية طويلة الأجل يرفع مخاطر الأصول العالقة، التي تصبح غير قابلة للاستخدام قبل بلوغ عمرها الاقتصادي نتيجة للتحول في الطاقة، ما يثير تساؤلات حول من سيتحمل تكاليف التخلص من المنصات والمعدات.

وترفض الصناعة هذه المخاوف، مؤكدة أن الطلب على النفط سيظل قوياً لعقود مقبلة، وأن عدم الاستثمار في الإمدادات سيؤدي إلى قفزات في الأسعار وفوضى اقتصادية.

وأوضح باتريك بوياني، الرئيس التنفيذي لـ «توتال» أن الصناعة تشهد معدل انخفاض في الإنتاج سنوياً يتراوح بين 4-5%، في حين أن هذا المعدل يرتفع إلى 7-8% في مشاريع المياه العميقة، ما يعني أن الاستكشافات الجديدة ضرورية فقط للحفاظ على مستوى الإنتاج الحالي.