مجلس التحرير
يزخر التاريخ المالي بأمثلة غريبة وعجيبة للضمانات. ففي القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، لجأت بيرو إلى استخدام عوائدها المستقبلية من الغوانو، ذلك السماد الطبيعي المصنوع من فضلات الطيور البحرية والخفافيش، كضمان للحصول على قروض لتمويل مشاريع ضخمة. وكانت جزر تشينشا توفر مخزوناً هائلاً من هذا المزيج الذي كان يبدو مثيراً للاشمئزاز، لكنه كان سماداً عالي الفعالية.
أما اليوم، ورغم أن الأوراق المالية المستخدمة كضمانات قد تبدو أقل إثارة للاشمئزاز ظاهرياً، إلا أنها لا تخلو من المخاطر، بل قد تكون أكثر سمية. فقد لعبت الأوراق المالية المضللة المدعومة برهون عقارية دوراً رئيسياً في إشعال شرارة الأزمة المالية العالمية عام 2008. والآن، نشهد أحدث الابتكارات المالية في عالمنا المعاصر: تقديم رقائق الذكاء الاصطناعي كضمانات!
وكشفت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن قيام كبرى المؤسسات المالية في وول ستريت بمنح قروض تتجاوز قيمتها 11 مليار دولار أمريكي لشركات الحوسبة السحابية، مع استخدام حيازات هذه الشركات من رقائق الذكاء الاصطناعي التي تنتجها شركة «إنفيديا» كضمانات.
ومن بين هذه الشركات «كور ويف» و«كروزو» و«لامبادا»، والتي تُقدم خدمات الحوسبة السحابية لشركات التكنولوجيا التي تعمل على تطوير منتجات تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
وقد تمكنت هذه الشركات من الحصول على عشرات الآلاف من وحدات معالجة الرسومات من «إنفيديا» من خلال إبرام شراكات مع الشركة المُصنّعة. وباتت رقائق «إنفيديا» سلعةً ثمينةً للغاية في ظل الارتفاع الكبير في الإنفاق على مراكز البيانات بسبب طفرة تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي.
ويواكب الحماس تجاه التقنيات الجديدة ابتكار مالي يُغذّي هذا الحماس. وقبل قرنين من الزمان، وخلال طفرة السكك الحديدية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، تمكنت بعض شركات السكك الحديدية من الحصول على قروض لمد خطوطها، معتمدةً في ذلك على خطوطها القائمة كضمانات. واليوم، تحذو شركات الحوسبة السحابية حذو تلك الشركات. فهي تُوفر البنية التحتية اللازمة لتخزين البيانات لمطوري الذكاء الاصطناعي عبر اتفاقيات شراء الطاقة.
وتُتيح القروض التي تُقدمها مؤسسات مالية كبرى مثل «بلاك ستون» و«بيمكو» و«كارلايل» و«بلاك روك»، لهذه الشركات، بضمان رقائق «إنفيديا»، شراء المزيد من الرقائق. وحال تعثرت هذه الشركات عن سداد ديونها، يحق للدائنين الاستحواذ على رقائقها وعقود الإيجار الخاصة بها.
لكن النمو المتسارع لسوق ديون جديدة خاصة بصناعة ناشئة يتطلب الكثير من الحذر. فأولاً، من غير المرجح أن تحافظ الرقائق على قيمتها كضمان على المدى البعيد.
ورغم استمرار ارتفاع الطلب على وحدات معالجة الرسومات، إلا أن المعروض منها قد ازداد بوضوح مع إعادة بيع الأجهزة الاحتياطية، وقد تستمر هذه الزيادة مع انتهاء آجال عقود الإيجار. يضاف إلى ذلك أن الرقائق الجديدة التي تُطورها «إنفيديا»، ومعها الشركات الطامحة للمنافسة في هذا المجال مثل «مايكروسوفت» و«غوغل» و«أمازون»، قد تقلل من قيمة الضمانات الحالية.
ثانياً، قد تؤدي هذه الصفقات إلى تضخيم التقييمات في القطاع. كذلك لا تزال تفاصيل الاتفاقيات المبرمة بين «إنفيديا» وشركات الحوسبة السحابية غير واضحة. كذلك، فإن «إنفيديا»، وهي المُصنّعة لهذه الرقائق، تُعد مستثمراً في بعض هذه الشركات الناشئة.
وهذه الشركات بدورها من بين أكبر عملاء «إنفيديا». ويمكن لمُقدّمي خدمات الحوسبة السحابية، الذين يحصلون على رقائق «إنفيديا» كضمان للحصول على القروض، استخدام رأس المال المُقترَض لشراء المزيد من هذه الرقائق. وقد تُؤدّي هذه الديناميكية إلى تضخيم أرباح «إنفيديا»، وهو ما يعني أن شركات الحوسبة السحابية تُخاطر بالوقوع تحت وطأة ديون باهظة.
ثالثاً: يمكن للشراكات بين مُقدّمي خدمات الحوسبة السحابية وشركة «إنفيديا» أن تؤدي على ترسيخ الوضع المهيمن لرقائقها، وهو ما يزيد من مخاطر التركز بالأسواق.
ومن الجيد أن استخدام الرقاقات كضمانات لايزال في مراحله الأولى. واستناداً إلى أحجام الإقراض الحالية، يبدو أن كبرى المؤسسات المالية في وول ستريت لا تخشى حتى الآن من انكشافها على هذا التوجه. لكن هذه التطورات تُسلّط الضوء على إقراض محفوف بالمخاطر، والتمويل الدائري، وديناميكيات المنافسة التي تُغذّي طفرة الذكاء الاصطناعي. وينبغي على المستثمرين أن يكونوا على دراية بالمخاطر المحتملة.
وقد يكون من الحكمة أن تضع «إنفيديا» حدوداً أكثر وضوحاً بين مصالحها التجارية والاستثمارية، الأمر الذي من شأنه تعزيز الشفافية في السوق.
وغالباً ما يكون الابتكار المالي إيجابياً، وكثيراً ما يُصمَّم بطريقة جيدة تُمكّنه من توجيه رؤوس الأموال نحو مشاريع تُعزز النمو لكن في ظل ضخّ مليارات الدولارات في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، تتزايد الضغوط على المُطوّرين لتوليد الإيرادات.
وإذا استمرّ الاعتماد على التمويل المُحفوف بالمخاطر وغير الشفاف لدعم هذا الهوس، فمن المُرجّح أن تواصل الأسعار ارتفاعها بشكل مُنفصل تماماً عن الواقع. وفي هذه الحالة، كلما اتّسع نطاق التداعيات السلبية واشتدّت حدّتها، كان التصحيحُ أكثر إيلاماً بدرجة كبيرة.