تحوّلت عمليات الاحتيال عبر الإنترنت إلى تجارة مربحة على نحو بالغ الخطورة، إذ كشفت أحدث الإحصاءات الأوروبية عن خسائر فادحة تكبّدها المستهلكون بلغت 4.3 مليارات يورو خلال عام واحد، نتيجة عمليات نصب رقمية متقنة.
وتزداد هذه العمليات تطوراً وتعقيداً، حيث بات المحتالون يعتمدون على إعلانات رقمية متقدمة تستخدم تقنية «التزييف العميق» القائمة على الذكاء الاصطناعي، مستغلين صور وأصوات شخصيات عامة مرموقة، من بينهم إيلون ماسك وخبير المال البريطاني مارتن لويس، للإيقاع بالمستخدمين ودفعهم إلى الكشف عن بيانات حساسة أو الاستثمار في مخططات احتيالية مُحكمة التنظيم.
وتُعد منصات التواصل الاجتماعي الساحة الأبرز لانتشار هذه الأنشطة، مستفيدة بشكل غير مباشر من العائدات الإعلانية المرتبطة بها. والحقيقة أنه يتحتم ألا تجني أي شركة – خصوصاً تلك التي تُعد من بين الأضخم والأكثر نفوذاً عالمياً –أرباحاً من عمليات احتيال بهذا الحجم الكارثي.
وعلى الرغم من تحسن آليات تعويض ضحايا الاحتيال الإلكتروني، والتي تتولاها عادة المؤسسات المصرفية، فإن الأضرار الناجمة عن هذه العمليات الاحتيالية تظل جسيمة، إذ لا تقتصر على الخسائر المالية المباشرة والضغوط النفسية التي يتعرض لها الضحايا والمصارف فحسب، بل تمتد لتقوض الثقة في مصادر المعلومات الموثوقة والقطاع المالي بأكمله.
وتتحول عملية إزالة المحتوى الاحتيالي إلى ما يشبه لعبة «اصطياد حيوان الخلد»، وهو ما واجهته صحيفة «فاينانشال تايمز» نفسها عندما اكتشفت إعلانات مزيفة عبر منصات شركة ميتا تُظهر الكاتب البارز فيها مارتن وولف وهو يروّج لاستثمارات احتيالية، حيث تبين للصحيفة أن هذه الإعلانات المزيفة شاهدها ملايين المستخدمين، مما تسبب في خسائر مالية لكثيرين، وما إن تتم إزالة الإعلان حتى تظهر إعلانات أخرى من حسابات مختلفة، فيما تبدو أنظمة ميتا قاصرة عن ملاحقة هذا التدفق، رغم نجاحها أخيراً في وقف هذه الظاهرة على ما يبدو.
ولا يمكن تحت أي ظرف تبرير انتشار مواد احتيالية وإجرامية، ونظراً لصعوبة مكافحة الإعلانات بعد انتشارها، فإننا أمام حالة تكون فيها الوقاية أفضل من العلاج، لذا ينبغي أن تتحمل منصات التواصل الاجتماعي مسؤولية قانونية بعدم توفير مساحات إعلانية للمحتالين من الأساس، كما ينبغي مطالبتها بـ«معرفة عملائها» وتحميلها المسؤولية، مع ضرورة اتخاذ إجراءات مناسبة وعقوبات رادعة إذا أخفقت في منع نشر الإعلانات الاحتيالية.
ويدرس الاتحاد الأوروبي حالياً تشريعات في هذا الاتجاه، حيث تناقش الدول الأعضاء مقترحات من بروكسل لإقرار حق التعويض التلقائي من شركات مثل باي بال وفيزا وماستركارد والبنوك للعملاء الذين تعرضوا للاحتيال، غير أن تعديلاً تقدمت به وزارة المالية الأيرلندية، ويلقى تأييداً متزايداً في عواصم أوروبية أخرى، سيذهب أبعد من ذلك - من خلال إلزام المنصات الإلكترونية قانوناً بالتحقق من حصول المعلن على ترخيص من جهة تنظيمية لتقديم خدمات مالية، وحظره في حال عدم امتلاكه مثل هذا الترخيص.
وأبدت بروكسل قلقها من احتمالية تعارض التعديل المقترح مع بند في قانون الخدمات الرقمية الأوروبي الذي لا يُلزم المنصات الإلكترونية بإجراء مراقبة واسعة النطاق للمحتوى.
كما يبدو أن هناك تخوفاً من إثارة غضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الساعي لتقويض التشريعات الأوروبية التي تستهدف شركات التكنولوجيا الأمريكية.
إن مطالبة المنصات بالتحقق من اعتماد المعلنين للخدمات المالية لا تشكل مراقبة واسعة النطاق، وسيقتصر تطبيق هذا التحقق على المنصات الإلكترونية الكبرى ومحركات البحث العملاقة فقط، خاصة أن بعض هذه المنصات تطبق مثل هذا الإجراء بالفعل أو تعهدت بتطبيقه، فشركة جوجل لديها برنامج تصديق للخدمات المالية في 17 دولة، بينما اتفقت شركة ميتا مع هيئة السلوك المالي البريطانية عام 2022 على حظر الإعلانات المالية للشركات غير المسجلة لدى الجهة التنظيمية، وينبغي للاتحاد الأوروبي أن يضع حماية المستهلك في المقام الأول، بغض النظر عن اعتراضات الرئيس الأمريكي وحلفائه من شركات التكنولوجيا الكبرى.
ورغم أن الالتزام القانوني بالتحقق من المعلنين الماليين لن يعالج المشكلة الأوسع المتمثلة في استخدام «التزييف العميق» للمشاهير في عمليات احتيال وترويج لمنتجات متنوعة من أدوات المطبخ إلى منتجات العناية بالأسنان، فإن إلزام الجهات المالية بالتسجيل لدى الجهات التنظيمية يمثل خطوة فعالة لردع أحد أخطر أشكال الاحتيال الإلكتروني، مما يحتم على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة أن يقدما نموذجاً يُحتذى به للدول الأخرى ويتخذا إجراءات فورية في هذا الشأن.