أليك راسل
مرت ستة عقود أو يزيد منذ أن اعتلى فيدل كاسترو، في شبابه، منصة الأمم المتحدة، ثم تمسّك بها لمدة 269 دقيقة كاملة، لإلقاء أطول خطاب في تاريخ الجمعية العامة، لذلك فإنه مع اقتراب خطاب دونالد ترامب المُطول، أول من أمس، من الساعة الأولى، بدا وكأن الرقم القياسي للثوري الكوبي قد يكون مهدداً، لكن ترامب تراجع عن تحقق مثل هذا الإنجاز، وبدلاً من ذلك، اكتفى بإنجاز آخر، حيث ألقى - بلا شك - الخطاب الأكثر غرابة على الإطلاق لرئيس أمريكي أمام الأمم المتحدة.
إن الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية تشكل عادة إحدى المناسبات القليلة في التقويم، التي يلقي فيها رئيس أمريكي خطاباً في الولايات المتحدة مُركزاً بشكل مباشر على العالم، وبعد قدر من التهليل للنجاحات التي يرى أنه حققها في الأشهر الثمانية الأولى من ولايته الثانية توجه ترامب بالفعل إلى العالم، لكن تركيزه لم يكن منصباً على القضايا والحروب المُلِحة، التي تُهيمن على عناوين الأخبار، بل عاد مراراً وتكراراً إلى هاجسين من هواجس حركة «أمريكا أولاً»: انتقاد الهجرة الجماعية باعتبارها تُدمر روح الغرب، وتصوير تدابير التخفيف من تغير المناخ على أن وراءها ثلة من الليبراليين المُستهترين.
وقال، إن تغير المناخ هو «أكبر عملية احتيال ارتُكبت على الإطلاق في العالم»، مضيفاً أن مصادر الطاقة المتجددة «مجرد مزحة.. إنها غير فعالة»، أما بالنسبة للهجرة فقد خاطب أوروبا قائلاً: «حان الوقت لإنهاء تجربة الحدود المفتوحة. بلدانكم ستذهب إلى الجحيم».
إذا كان لهذا الخطاب صدى فهو يذكرنا بخطاب تنصيب ترامب الأول في يناير 2017، عندما رسم صورة لـ«أمريكا المُظلمة» وتحدث عن «مذبحة في قلب البلاد ضعيف التصنيع»، وقد استمع ممثلو الدول الأعضاء الـ 193 إليه وهو يتطرق في كثير من الأحيان إلى ما يعتبر بلا شك هواجس خاصة، وغريبة، لأقوى زعيم في العالم.
فجأة قرر انتقاد حالة الريف الأسكتلندي، الذي وصفه بأنه متضرر من كثرة توربينات الرياح، وفي اللحظة التالية انتقل لانتقاد حاد لعمدة لندن، صادق خان، الذي لطالما كان هدفاً لغضبه، والذي اتهمه - زوراً - بالترويج للشريعة الإسلامية. وقال: «إنني أحب أوروبا، وأكره أن أراها تُدمر بفعل الطاقة والهجرة. أنتم تفعلون ذلك لأنكم تريدون أن تكونوا لطفاء وملتزمين باللياقة السياسية»، وعاد ليقول: «البصمة الكربونية خدعة اختلقها أناس ذوو نوايا شريرة».
وقبل إلقائه هذا الخطاب ترددت بين موظفي الأمم المتحدة تكهنات مقلقة بأن ترامب سيستغل خطابه لتقليص علاقة بلاده بالمنظمة الدولية، وكان من بين السيناريوهات المحتملة أنه سيكشف عن المزيد من التخفيضات الأمريكية في المساعدات الإنسانية، بل وربما يهدد باقتلاع الأمم المتحدة من نيويورك.
بالتأكيد فإنه حتى حلفاء الأمم المتحدة يقرون بأنها تواجه على الأرجح أصعب سيناريو طوال ثمانين عاماً من وجودها - أزمة مالية ومعنوية وتساؤلات قوية حول مدى أهميتها. وقال ترامب بالفعل، إن الأمم المتحدة «لا تقترب حتى من الارتقاء إلى مستوى إمكاناتها»، وقليلون من الحضور يمكنهم معارضة هذا الرأي - على الرغم من أن أحادية ترامب المتواصلة تعد عاملاً رئيسياً وراء انجراف المنظمة الواضح نحو هامش العالم.
وقد أتيحت لترامب فرصة ذهبية للسخرية من الأمم المتحدة، ففي بداية خطابه اتضح أن جهاز التلقين لا يعمل - وهي قدم استعارة في وقتها تماماً لرجل لطالما احتقر الأمم المتحدة، ليس فقط لارتباطها بالقيم التقدمية، بل أيضاً لكونها كياناً عملاقاً بلا كفاءة.
قال ترامب وسط ضحكات حقيقية في القاعة: «لا يسعني إلا أن أقول إن من يُشغل جهاز التلقين هذا في ورطة كبيرة»، كما اتضح أن السلم المتحرك الذي كان ينقله إلى قاعة الجمعية العامة في مبنى الأمم المتحدة المكون من 39 طابقاً قد تعطل أيضاً، وهو ما جعل الطريق ممهداً تماماً للمزيد من الانتقادات من جانب ترامب، لكن النقطة المضيئة للأمم المتحدة أنه لم تكن هناك أي مبادرة جديدة بشأن العلاقة بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وعلى أية حال فكلما بدا أن الرئيس بدأ يتجهز للخوض في موضوع ما، كان يُحيد في اتجاه آخر أو يعود إلى نقطة قديمة ومحبطة مُفضَلة لديه.
إن مؤيديه قالوا إن خطابه كان يدور حول تحقيق السلام، وقد نال بالفعل تصفيقاً عندما دعا «حماس» إلى إطلاق سراح آخر الرهائن الإسرائيليين، كما مد غصن زيتون لأول مرة للرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بعد أشهر من التوتر بين الرجلين، ولكن هذا ليس سبب كافياً لأن نتذكر خطابه لعصور طويله مثلما تذكرنا خطاب كاسترو، هذا رئيس من الواضح أنه لا يزال منزعجاً من رفض الأمم المتحدة عرضه بمليارات الدولارات في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لتجديد مقرها الرئيسي بالرخام والماهوجني، كما من الواضح أنه مهووس بطواحين الهواء.
يُقال إن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قال بعد الاستماع إلى خطاب تنصيب ترامب عام 2017: «كان ذلك غريباً.. مجرد هراء»، لذا يبدو أن الخطاب أمام الأمم المتحدة كان النسخة العالمية من ذلك، وبالنسبة لمعظم الحاضرين كان الأمر غريباً بالتأكيد.
