جوشوا فرانكلين - كوستاس مورسيلاس
في قلب مانهاتن، يفصل شارع واحد وقرن من الزمان بين عملاقيّ المال، جولدمان ساكس وجين ستريت، لكن الفجوة بينهما أكبر من ذلك بكثير، ليس فقط في الاستراتيجيات المالية، بل في الأجور أيضاً حيث وصلت إلى نحو 160%.
وبينما ظل جولدمان ساكس وبنوك الاستثمار الأخرى تتربع على عرش التداول لعقود، ها هي جين ستريت تأتي، لتقدم متوسط أجرٍ فاق 900 ألف دولار لكل موظف في العام الماضي، متجاوزةً بذلك بكثير متوسط رواتب جولدمان ساكس البالغ 340 ألف دولار، وفقاً لحسابات فاينانشال تايمز.
وقد تأسست هذه الشركة الناشئة في مطلع الألفية الجديدة، وهي واحدة من حفنة من شركات التداول البالغة السرية، مثل: «سيتادل سيكيوريتيز وسسكويهانا إنترناشيونال جروب»، و«إكس تي إكس ماركتس»، و«دي آر دبليو»؛ والتي استفادت من رقمنة الأسواق المالية في الاستحواذ على حصة سوقية من المؤسسات المصرفية الأقل مرونة والخاضعة لتنظيم صارم، الأمر الذي أعاد تشكيل مشهد التداول في وول ستريت.
ولطالما كانت شركات التداول المستقلة هي أكبر اللاعبين في سوق الأسهم الأمريكية؛ حيث استخدمت الخوارزميات للتوفيق بين المشترين والبائعين للأسهم والخيارات بسرعات مذهلة. لكنها الآن برزت كجهات فاعلة رئيسية في كل الأسواق تقريباً وفي جميع المناطق حول العالم، حتى في الأسواق التي كانت تعد في السابق بمنأى عن ضغوط التداول الإلكتروني عالي السرعة مثل تداولات الدخل الثابت.
والبيانات المتعلقة بحصص التداول في مختلف القطاعات من السوق متفاوتة، لكن البيانات المتاحة تشير إلى نمو هائل. وتتعامل سيتادل سيكيوريتيز مع 455 مليار دولار من الصفقات يومياً، بما في ذلك ما يقرب من ربع جميع صفقات الأسهم الأمريكية.
وذكرت جين ستريت أنها تمثل الآن أكثر من 2% من إجمالي الصفقات في أكثر من 20 دولة. وخلال العام الماضي، تداولت ما قيمته 6.3 تريليونات دولار في صناديق الاستثمار المتداولة والخيارات بقيمة اسمية إجمالية بلغت 32 تريليون دولار.
ووفقاً لمصادر مطلعة، بلغت إيرادات التداول خلال النصف الأول من العام في جين ستريت 8.4 مليارات دولار وأقل قليلاً من 5 مليارات دولار في سيتادل سيكيوريتيز، وسجل كلاهما زيادة بنحو 80% عن العام السابق.
وبالمقارنة، كان أفضل أداء بين وحدات التداول في أكبر خمسة بنوك استثمارية هو 11% فقط، وهو ما حققته جولدمان ساكس. في الوقت نفسه، ارتفعت القيمة الصافية لأصول شركات التداول 12 ضعفاً في سيتادل سيكيوريتيز و6 أضعاف في سسكويهانا منذ عام 2008، وفقاً لبيانات صادرة من شركة ألفاكوشن ريسيرش.
وتقول شركات التداول إن ابتكاراتها التكنولوجية جعلت التداول أرخص وأكثر نزاهة وشفافية. ومع ذلك، فإن صعود شركات التداول المزودة بأفضل التقنيات مقارنة بالبنوك الاستثمارية التقليدية يفرض تحديات تنظيمية جديدة ومعقدة.
وأشار دينيس كيليهر، رئيس مجموعة «بيتر ماركيتس» المناصرة للإصلاح المالي، إلى أن «هذا القطاع من الصناعة المالية شديد الغموض وشاسع». وأضاف «إذا كان لدينا فهم أفضل لأنشطة سيتادل، أو شركات التداول الكبرى الأخرى... فيمكننا إجراء مناقشة مستنيرة حول وضع اللوائح اللازمة لإدارة لتلك المخاطر. لكننا لا نعرف، للأسف».
ولطالما كانت البنوك الاستثمارية في وضع غير مؤاتٍ في سباق التسلح التكنولوجي للتداول. وقد تأسست العديد من الشركات الناشئة في مطلع الألفية، عندما بدأت قاعات التداول الصاخبة في شيكاغو، نيويورك ولندن تفقد نفوذها، مع صعود التداول عبر الكمبيوتر.
وتلقت الأسواق المالية دفعة قوية للتوجه نحو الرقمنة بسبب اللائحة التي صدرت في عام 2007 والمعروفة باسم نظام السوق الوطنية التنظيمية، المصمم لخلق تكافؤ أكبر للفرص في تداول الأسهم، والإلزام بتوجيه الصفقات إلى أي بورصة تقدم أفضل سعر. وساعد ذلك على ظهور أوائل صناع السوق المعاصرين، المتداولين الذين يمكنهم تحقيق أرباح ضئيلة من أعداد هائلة من الصفقات، وهو مفهوم أبرزه كتاب مايكل لويس الأكثر مبيعاً «فلاش بويز».
وفي عام 2010، تغير المشهد مرة أخرى عندما فرضت الجهات التنظيمية قيوداً صارمة على التداول الخاص بالبنوك بموجب قاعدة فولكر في قانون دود فرانك. ورغم أنها قادرة على العمل كصانعة للسوق، إلا أن متطلبات الامتثال ورأس المال تعني الحد من قدرتها على التداول بحرية. وبدلاً من ذلك، بدأت البنوك التركيز على عدد أقل من الصفقات الكبيرة لعملاء كبار مثل الاكتتابات العامة الأولية وإصدارات الديون.
وقال جاري كوهن، رئيس جولدمان ساكس خلال الفترة من عام 2006 حتى انضمامه إلى إدارة ترامب في 2017، إنه «قبل قانون دود-فرانك، كان لدينا ميزة أننا كنا قادرين على المخاطرة وتوفير السيولة.. فقد كان بوسعنا توفير السيولة والحفاظ عليها، ولكن بعد تطبيق دود-فرانك، أصبحنا محركين وليس مدخرين».
وقد أدركت بعض شركات التداول أنها يمكن أن تتقدم على حساب البنوك، فهذه الشركات تعتمد على جحافل من حاملي الدكتوراه والمهندسين لتطوير خوارزميات تداول متقدمة، مما غيّر ثقافة التداول التي كانت تتسم بالجرأة، كما أنه يتم مكافأة الموظفين بسخاء.
ومع تزايد المطالب التنظيمية على البنوك، استثمرت شركات التداول الخاصة مبالغ ضخمة في التكنولوجيا لتتفوق على بعضها البعض وتقليص أوقات التنفيذ بالميكروثانية.
وتساءل أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في مجال التداول في أحد البنوك الأمريكية البارزة، قائلاً «ما حجم الاستثمار اللازم لنتمكن من تقليد أنظمتهم قبل أن نصل حتى إلى نقطة التعادل؟ قد يستغرق ذلك من ثلاث إلى خمس سنوات من الاستثمار في بيئة تتطور باستمرار».
وذكر أحد الموظفين السابقين لدى «سيتادل سيكيوريتيز» أنهم «أصبحوا أسرى لاعتقاد بأن نموذجهم التقليدي سيبقى إلى الأبد». وحالياً، تعمل البنوك وشركات التداول غير المصرفية ضمن نظام بيئي معقد حيث يعملون عملاء ومنافسين وأطرافاً مقابلة في نفس الوقت، وهي ديناميكية تصعب على البنوك تحديد من ينافسهم على الأعمال.
وقال أحد كبار المتداولين السابقين في الأسهم في أحد البنوك الأمريكية الكبرى: «نظراً لعدم توافق هؤلاء اللاعبين مع إطار المنافسين التقليديين، أعتقد بأنهم تم تجاهلهم إلى حد ما.. وعلى مدار الـ18 شهراً الماضية، أصبح من الواضح بلا شك أنهم منافسون أقوى من أن يُنظر إليهم أنهم مجرد عملاء».
وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، استحوذت شركات التداول غير المصرفية على الغالبية العظمى لتدفقات التداول عبر الأسهم الأمريكية. وهم يطمحون إلى ما هو أكثر. فهم الآن يتوسعون في أسواق السندات والقروض، وهي أسواق قد تكون أكثر غموضاً وأوسع نطاقاً، وبالتالي كانت أبطأ في تطوير التداول الإلكتروني.
في المقابل، لا تزال بعض مجالات أقسام التداول في البنوك، مثل تقديم خدمات الصرف الأجنبي والسيولة للعملاء من الشركات الكبرى، راسخة بدرجة كبيرة.
وتظل بنوك الاستثمار، مثل جولدمان ساكس ومورغان ستانلي وجي بي مورغان، هي الشركات المفضلة للتعامل مع الصفقات الأكثر تعقيداً أو المتخصصة التي تحتاجها صناديق التحوط ولم تنفذها إلكترونياً. لكن حتى في تداول العملات الأجنبية، حيث كانت البنوك قادرة على الاعتماد على العملاء من الشركات التي لا تهتم كثيراً بالسعر، ثمة تهديدات من منافسين غير مصرفيين مثل «إكس تي إكس».
ويزعم المسؤولون التنفيذيون في وول ستريت بأن أفضل استراتيجية لديهم هي الاستمرار في توفير المنتجات التي لا تقدمها شركات التداول، مثل تقديم التمويل لصناديق التحوط من خلال خدمات الوساطة الرئيسية. كما تتحكم البنوك في جدول الإصدارات الجديدة للأوراق المالية عبر عروض الأسهم وصفقات الديون.
وينظر البعض إلى القادة الجدد في مجال التداول أنهم أفضل المراقبين للسوق مقارنة بالبنوك التي سبقتها في المجال. وبصفتها شركات مملوكة للقطاع الخاص، فإن أي خسائر يشعر بها المؤسسون والموظفون بشكل مباشر، وهو ما يعزز من ثقافة الحذر.
ومع نمو حجم شركات التداول، تزداد أهميتها لبقية النظام المالي، فقد نبهت «الانهيارات السريعة» في عام 2010، حين تم محو عشرات المليارات من الأسهم الأمريكية مؤقتاً، الجهات التنظيمية إلى مخاطر التداول الإلكتروني عالي التردد.
وبعد ذلك بعامين، اشترت مجموعة نايت كابيتال عن طريق الخطأ أسهماً بقيمة مليارات الدولارات وتكبدت خسارة في التداول بلغت نحو 500 مليون دولار. وفي أكتوبر 2014، سلّطت «الارتفاعات المفاجئة» الحادة في سندات الخزانة الأمريكية الضوء على كيفية انتشار هذه الأحداث خارج سوق الأسهم.
ورغم تزايد المطالب بتعزيز الرقابة على شركات التداول، يقول النقاد إنه تم اتخاذ إجراءات ضعيفة نسبياً لحل هذه المسألة. وقال رئيس إحدى شركات التداول الخاصة، إنه «يجب على الجهات التنظيمية أن تراقب أكبر 15 لاعباً من حيث حجم التداول، ويجب أن تكون محايدة بشأن ما إذا كان ذلك بنكاً أو صندوق تحوط أو مجموعة تداول خاصة، لأن هناك مخاطر متأصلة عندما يمتلك شخص ما حصة سوقية هائلة». وحذر قائلاً: «إذا انهاروا، يمكنهم فقدان السيولة والتسبب في توتر داخل السوق».
ووفقاً لمحللين، فقد نمت هذه الشركات الكبيرة إلى الحد الذي لن يكون هناك سوى مجموعة واحدة كبيرة قادرة على إنقاذها أثناء الأزمات. وأشاروا إلى أنه إذا واجهت إحدى هذه الشركات الكبيرة غير المصرفية مشكلة مالية ضخمة، فإن الكيان الوحيد الذي يمكنه إنقاذها سيكون أحد البنوك الكبرى.
وبالنسبة للبنوك والوسطاء وغيرهم من اللاعبين في وول ستريت، فلا شك في أن عمالقة التداول الجدد باقون لا محالة.