المتقاعدون يمسكون بزمام السياسة والاقتصاد في فرنسا وبريطانيا

جون بيرن-موردوك

ما القاسم المشترك بين تيريزا ماي وآندي بيرنهام من جهة، وميشيل بارنييه وفرانسوا بايرو وإيمانويل ماكرون من جهة أخرى؟ إنّهم جميعاً تعاملوا بقدر كبير من الصراحة مع الجمهور حيال المقايضات الحتمية الملازمة لتمويل مجتمع يزداد شيخوخةً، لكنّ هذه الصراحة كلّفتهم غالياً؛ إذ تعرّضوا للعقاب من الناخبين ووسائل الإعلام والسياسيين المعارضين على حدّ سواء.

وخلال العقود الأخيرة، تحوّلت الساحة السياسية في فرنسا والمملكة المتحدة إلى ما يشبه فعلياً «مقبرة» لمشاريع الإصلاح الرامية إلى كبح الارتفاع المتواصل في الإنفاق على الفئات المتقدّمة في السن.

وتكشف موازنات البلدين في الفترة نفسها نتائج هذا العجز عن الإصلاح إذ ارتفعت المخصصات المالية الموجّهة إلى كبار السن بسرعة أكبر وبمستوى أعلى مقارنةً بنظرائهم في الدول الأخرى، كما ارتفعت معها بالتالي نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.

صحيح أنّ ظاهرة تقدّم السكان في السن ليست قاصرة على ضفّتَي القناة الإنجليزية، بل إنّ فرنسا والمملكة المتحدة تتمتعان بتركيبة سكانية أكثر مواءمة نسبياً مقارنةً بكثير من دول أوروبا. غير أنّ المشكلة تكمن في طريقة التعامل مع هذه الظاهرة، وفي المكانة المهيمنة التي يحظى بها المتقاعدون في المجتمعَين. وفي المملكة المتحدة، تتجلّى المشكلة في جانبين اثنين:

أولاً، إفشال محاولات الحزبين الكبيرين نقل بعض التكاليف الباهظة للغاية لرعاية المسنّين إلى أولئك الأكثر قدرة على تحمّلها. فقد تضاعفت فاتورة الرعاية الصحية والاجتماعية للبريطانيين الذين تجاوزوا الخامسة والستين منذ مطلع الألفية، ومن دون زيادة موازية في الإيرادات، وهو ما أدى إلى تقليص الإنفاق على البنية التحتية وزيادة مستويات الاقتراض.

ثانياً، في نظام «القفل الثلاثي» المتعلّق بالمعاشات التقاعدية الحكومية، والذي يضمن زيادة المدفوعات كل عام وفق الأعلى من بين ثلاثة معدلات: التضخم، أو نمو الأجور، أو 2.5%.

ويُعَدّ هذا امتيازاً استثنائياً يضمن نمو الإنفاق على المعاشات بوتيرة أسرع من نمو عدد المتقاعدين، ويرفع مستويات معيشة كبار السن بوتيرة أسرع من باقي فئات المجتمع. لكن إلى جانب خنقه البطيء للمالية العامة البريطانية، فقد أدّى هذا الأمر إلى نشوء مجتمع باتت فيه احتمالات عيش الأطفال في فقر أعلى من الاحتمالات المتعلقة بأجدادهم.

والصورة على الضفّة الأخرى من القناة أشدّ تطرفاً، فالمتقاعدون في فرنسا لا يتلقّون شيكات حكومية أكبر من نظرائهم في أيّ مكان آخر في الغرب فحسب، بل يبدأون بتقاضيها قبل نظرائهم بعدّة سنوات أيضاً. والنتيجة هي وضعٌ أصبح فيه مَن تجاوزوا الخامسة والستين يتمتعون حالياً بمتوسط دخل أعلى من السكان في سنّ العمل، وهو أمر فريد من نوعه سواء على الصعيد الدولي أو في تاريخ فرنسا نفسه.

وتقابل حتى الشائعات بأي تهديد لمثل هذا النظام بغضب شعبي عارم ومعارضة حادة من اليمين واليسار على السواء. وقد قوبلت محاولة إيمانويل ماكرون لرفع سنّ التقاعد تدريجياً لتقترب من الحدّ الأدنى السائد في الغرب باحتجاجات عمّت البلاد.

كما أدى مجرّد اقتراح ميشال بارنييه بتأجيل الزيادة الأخيرة المقررة في المعاشات ستة أشهر إلى انهيار أول حكومة من حكومتين سقطتا خلال الأشهر العشرة الماضية، فيما تسبّب رفض فرانسوا بايرو إلغاء التعهّدات نفسها في سقوط الحكومة الثانية.

وفي إحصائية لافتة قدمها المحلل السياسي الفرنسي فرانسوا فالنتان، تبيّن أنّ المعاشات تلعب دوراً ضخماً إلى درجة أنّها استحوذت العام الماضي على نحو سُدس ميزانية وزارة الدفاع الفرنسية، ولولاها لكانت فرنسا قد تجاوزت بالفعل هدف حلف شمال الأطلسي (الناتو) المتمثل في تخصيص 2% من الإنفاق العسكري.

وهكذا، فقد تحوّلت المعاشات والمتقاعدون إلى أمر لا يمكن المساس به؛ بل باتت أحزاب المعارضة الفرنسية تلجأ عوضاً عن ذلك إلى اقتراح ضرائب جديدة مبتكرة ومرتجلة تستهدف شرائح سكانية محدودة للغاية، على أمل تحصيل إيرادات تظلّ أقل بكثير ممّا يمكن توفيره من مجرد تقليصات طفيفة وغير ملموسة في المعاشات.

وفي المملكة المتحدة، في المقابل، فإنّ أكثر التقديرات تفاؤلاً لعوائد فرض ضريبة على الثروة تبقى أدنى من التكلفة الإضافية السنوية التي يفرضها نظام «القفل الثلاثي» مقارنةً بربط المعاشات بنمو الأجور وحده. وليس هناك مؤشرات تُذكر على أنّ تغيّر الأجيال سيساعد على معالجة الوضع.

فقد تبيّن أنّ الآمال بأن يُضعف فوز حزب العمال في الانتخابات العامة العام الماضي قبضة جيل «طفرة المواليد» على المالية العامة البريطانية كانت ساذجة، إذ إنّها كانت المرة الأولى التي يخسر فيها هذا الجيل تصويتاً منذ مولده.

لكنّ وزير الخزانة اضطر سريعاً إلى التراجع عن خطة لجعل دعم التدفئة الشتوية للمتقاعدين خاضعاً لاختبارات الدخل، فيما اعتبر الناخبون أنّ سوء تعامل الحكومة الجديدة مع المتقاعدين كان أسوأ ما اتسمت به بدايتها في الحكم.

وغالباً ما يتّهم الناخبون، السياسيين بالاحتيال المالي، لكنّهم في هذه الحالة متواطئون في افتراض إمكانية استخراج شيكات تقاعدية متزايدة الحجم كما لو كانت أرانب تُستخرج من قبعة الساحر. لكن في لحظةٍ ما، سيتعيّن على الطرفين مواجهة الحقائق الصارمة.