لماذا يعجز اليسار الأمريكي عن استثمار إخفاقات ترامب؟

إدوارد لوس

تملك الولايات المتحدة مؤسسة محافظة تحمل اسماً رسمياً هو «الحزب الديمقراطي»، وسواء تعلق الأمر بالحكومة الفيدرالية أو الجامعات أو الرعاية الاجتماعية أو الجهاز التنظيمي فإن الديمقراطيين يناضلون من أجل إبقاء العالم كما هو أو كما كان.

من جانبهم يهتف الليبراليون «أمريكا عظيمة بالفعل»، في إشارة ضمنية إلى أن الأمور كانت على ما يرام حتى جاء دونالد ترامب، وكان نجمهم الملهم هو جو بايدن، الذي جسّد الحنين إلى الماضي.

وها هو اليوم يعود ليصبح موضع حنين جزء كبير من الحزب ذاته، غير أن التمسك بهذا الخيار لا يكشف سوى عن وقوع الكثيرين أسرى لطرائق تفكير قديمة، يتم تصويرها خطأً على أنها السبيل لنهضة الليبرالية الأمريكية.

إن الولايات المتحدة لو كان فيها معارضة متجددة بحق لكانت الآن تجني ثمار إخفاقات ترامب، صحيح أن فريقه يفاخر بسجل بعنوان «وعود تم الإيفاء بها»؛ يضم إغلاق الحدود فعلياً، وتقويض ثقافة الحصص المرتبطة بالتنوع والإنصاف والشمول.

وشن حرب على «الدولة العميقة»، وإطلاق سلسلة من الحروب التجارية مع بقية العالم، لكن قطاعات واسعة من مؤيدي حركة «ماغا» كانت تتوقع من هذه السياسات تحسناً لأوضاعهم الاقتصادية، فيما النتيجة جاءت عكسية، ولهذا تتراجع شعبية ترامب باستمرار.

لكن تراجع شعبية الديمقراطيين أشد وأسرع، وهو ما يعزز في النهاية الهيمنة السياسية لترامب، لذلك يجب ألا يراهن أحد على أن ضعف الاقتصاد سيغيّر المعادلة.

إن نجاح ترامب حتى الآن يكمن في قدرته على دفع الديمقراطيين إلى التمسك بالأسلوب المحافظ وردود الفعل، وذلك، مضافاً إلى متوسط أعمار قيادتهم المرتفع، يجعلهم يبدون كونهم أجداداً غاضبين على الدوام.

وهكذا فإنه رغم أن هجمات ترامب على جلّ الأعراف الدستورية أمر مثير للرعب والسخط حقاً فالغريب أنها محصنة بشكل لافت ضد أي ارتداد سياسي، وعملياً انحصر الموقف المعارض لترامب في مجرد آلة غضب افتراضية.

ما الحل إذن؟ الديمقراطيون هم حزب النخب المهنية الأمريكية إضافة إلى مجموعات مصالح متعددة، وبما أن ترامب نجح في كسب أغلبية الناخبين من الطبقة العاملة فإن الحزب لم يعد البيت الطبيعي لها، ومن ثم فإن أي انتعاش ديمقراطي يجب أن يبدأ بمواجهة رؤية الحزب للعالم.

وتكمن الصعوبة العملية في أن الحزب مكوَّن إلى حد كبير من المهن النخبوية، وخصوصاً القانون والحكومة والإعلام والأوساط الأكاديمية، وغالباً ما يجد هؤلاء صعوبة في إخفاء احتقارهم للناخبين، الذين صوّتوا لترامب، وهذا مدخل سيئ لأي محاولة للعودة.

كما يواجه الديمقراطيون معضلة فلسفية أعمق: لا أحد يعرف كيف يُعاد ابتكار الليبرالية، التي سادت خلال القرن العشرين، ففي الولايات المتحدة كان ذلك مشروع «الصفقة الجديدة» الذي أطلقه فرانكلين روزفلت في ثلاثينات القرن الماضي، مع عدد من التحديثات على مدى عقود لاحقة، وقد شيد روزفلت ذلك العالم عبر «تجارب جريئة»، أما ورثته المفترضون اليوم فقد علقوا في محافظة خجولة متكررة.

هم لا «يرحبون بكراهية الاحتكارات المالية والتجارية» كما فعل روزفلت، بل أصبحوا حزب الشركات الكبرى في أمريكا، ولم يسبق أن تفاخر أي حزب في التاريخ بامتلاكه هذا العدد من خبراء جمع التبرعات وفاعلي الخير.

إن غياب الأفكار الجديدة والتركيبة الديموغرافية المنغلقة هما التعريف العملي للمحافظة، ولو لم يكن ترامب موجوداً، هل كان الديمقراطيون سيسعون إلى إصلاح الدولة الإدارية الأمريكية؟ وكان ينبغي أن يعملوا على إعادة ابتكارها، لكنهم أصبحوا اليوم مدافعين متشددين عنها.

إن نظاماً مليئاً بنقاط «الفيتو» إلى حد يجعل تنفيذ أبسط المشاريع يستغرق سنوات، ويستلزم شهادة دكتوراه لفهم النظام الضريبي، لا يستحق الدفاع عنه، الأمر ذاته ينطبق على سوق الإسكان الذي أقصى الأجيال الشابة عن «الحلم الأمريكي».

وعلى الجامعات النخبوية المنحازة إلى أبناء الخريجين والمانحين، لكن هذه الأمور باتت في نظر الديمقراطيين قضايا يجب الدفاع عنها حتى النهاية، طالما أن ترامب يهاجمها.

عموماً، كل ذلك ليس عذراً أمام ترامب لتدمير هذه المؤسسات، وكما حذّر أخيراً عالم السياسة روي تيكسيرا فإن الديمقراطيين يضعون رهاناتهم على «الكنز الزائف»، الذي تمثله النجاحات المؤقتة في الانتخابات النصفية. وبدلاً من البحث عن سبل لإعادة ابتكار نظام فقد الأمريكيون ثقتهم به يراهن الديمقراطيون على هزيمة ترامب في انتخابات الكونغرس المقبلة.

الاحتمال الأكبر أن يخسر الجمهوريون مجلس النواب في 2026 مع احتفاظهم بالسيطرة على مجلس الشيوخ. مثل هذا النجاح الجزئي في منتصف الولاية سيكون نصراً باهظ الكلفة، فبايدن بنى حملته لإعادة انتخابه عام 2024 على النجاح النسبي لحزبه في انتخابات 2022 النصفية، فأين انتهى به الأمر؟

و«الكنز الزائف» الثاني هو الاعتقاد بأن «الترامبية» ستختفي برحيل ترامب نفسه، وحتى على افتراض أنه لن يحاول تنفيذ انقلاب في 2028 فإن من السذاجة أن يظن الديمقراطيون أن مشكلتهم ستنتهي معه، والتجارب في ديمقراطيات أخرى، مثل حزب العمال البريطاني المرتبك.

والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني المحتضر، والاشتراكيين الفرنسيين الذين ذبلوا، تُظهر أن الشعبوية ليست ظاهرة أمريكية استثنائية.

وهكذا فإن التحدي الحقيقي أمام الديمقراطيين هو أن يفعلوا ما كان ينبغي أن يفعلوه أصلاً لو لم يكن ترامب موجوداً، و«القوة الخارقة» لترامب تتمثل فعلياً في منعه لهم من الوصول إلى هذه الحقيقة.