رئيس وزراء ياباني جديد يرحل سريعاً.. لكن الأزمة أعمق من الرجل

ليو لويس

عندما تولى شيغيررو إيشيبا منصب رئاسة الوزراء تعهد بأن «يعيد الابتسامة» إلى شعب يرزح تحت ضغوط اقتصادية وديموغرافية وجيوسياسية، غير أن طموحه ذاك سرعان ما اصطدم بواقع صعب فرضته سياسات رئيس أمريكي يصعب التنبؤ بمواقفه، إلى جانب تنامي التحدي الشعبوي في الداخل.

وأعلن إيشيبا استقالته، الأحد، بعد الارتفاع الحاد في تكاليف المعيشة وتلقيه انتكاستين انتخابيتين مدويتين في غضون عشرة أشهر فقط. وقال كويتشي ناكانو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا: «لا أعتقد أنه أنجز شيئاً يعلق في ذاكرة اليابانيين العاديين، أو أن يكون سبباً للابتسام».

ظاهرياً تبدو فترة حكمه القصيرة جزءاً من النمط المألوف؛ فمنذ عام 1990 تعاقب على رئاسة الحكومة اليابانية 18 رئيس وزراء، قضى 11 منهم قرابة عام واحد فقط في المنصب، غير أن رحيل إيشيبا يختلف عن حالات سابقة ارتبطت عادة بتراجع شعبية الزعيم أو فضائح أو سوء إدارة. هذه المرة تكشف الاستقالة عن أزمة أعمق داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي حكم اليابان معظم السنوات السبعين الماضية، ويجد نفسه اليوم في صراع من أجل البقاء السياسي.

إن قدرة الحزب على احتواء التوترات الداخلية باتت تتضاءل، وسط انقسام بين جناح يميني- وسطي معتدل يرفع لواء الإصلاح، وتيار محافظ يتبنى رؤية تحريفية للتاريخ، ويجنح خطاب بعض رموزه إلى نزعة عدائية تجاه الأجانب.

إعلان إيشيبا، الذي جاء استباقاً لتصويت بحجب الثقة داخل الحزب، فتح الباب أمام سباق محموم للعثور على زعيم يتمتع بالكاريزما الكافية لإعادة التواصل مع الناخبين، وقادر على ترميم التحالف الداخلي الذي كان ركيزة متانة الحزب عبر عقود، فيما حذر إيشيبا من أن ثمن الإخفاق سيكون باهظاً. وقال في كلمته، مساء الأحد: «إذا فقد الحزب الليبرالي الديمقراطي مصداقيته، فإن السياسة اليابانية ستنزلق إلى شعبوية عابرة. وإذا رآنا الناس حزباً تقليدياً لم يتغير، فلن يكون لنا مستقبل».

ولن تقتصر المهمة أمام خليفته على رأب الصدع الداخلي، بل ستشمل أيضاً مواجهة تحديات خارجية جسيمة، في مقدمتها التعامل مع رئاسة دونالد ترامب والحفاظ على مكانة اليابان كأقرب حليف آسيوي لأمريكا. وقال كينيث وينشتاين، رئيس برنامج اليابان في معهد هدسون بواشنطن: «إيشيبا لم يكن قادراً على تقديم رؤية عميقة لدور اليابان في العالم سواء في عيون واشنطن أو داخل بلاده. واليابان بحاجة إلى قائد يستطيع أن يواجه ترامب مباشرة، ويمنح شعبه الثقة بقدراته». كما سيتعين على الزعيم المقبل إنعاش اقتصاد يعاني من نقص العمالة وشيخوخة سكانية متسارعة.

ومن المقرر إجراء الانتخابات في الأسبوع الأول من أكتوبر، وسط توقعات بترشح عدد كبير من المنافسين، لكن الفائز سيكون مضطراً للتعامل مع واقع سياسي صعب، بعدما خسر الحزب الليبرالي الديمقراطي، تحت قيادة إيشيبا، الأغلبية المطلقة في مجلسي البرلمان، ما يعني أن إدارة المرحلة المقبلة ستتطلب التعاون ليس فقط مع الشريك التقليدي «كوميتو»، بل أيضاً مع أحد أحزاب المعارضة الصغيرة على الأقل.

ووفقاً لأعضاء الحزب يبرز في صدارة المرشحين شينجيرو كويزومي، وزير الزراعة البالغ من العمر 44 عاماً، الذي يُنظر إليه باعتباره معتدلاً نسبياً، وعلى أنه الأكثر قدرة على عقد صفقات مع «حزب الابتكار الياباني»، ثالث أكبر قوة في مجلس النواب، وسيواجه كويزومي منافسة محتملة من شخصيات أخرى، أبرزها سانائي تاكايتشي، المحافظة المتشددة التي يرى أنصارها أنها الوحيدة القادرة على استعادة الناخبين الذين انجذبوا إلى أحزاب يمينية أصغر. وإذا فازت فستكون أول امرأة تتولى منصب رئاسة الوزراء في تاريخ اليابان.

وقالت مييكو ناكاباياشي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة واسيدا: «إن حجم التحدي الذي سيواجهه زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الجديد سيتضح فوراً. ففي السابق كان تحكّم الحزب في البرلمان يضمن تلقائياً صعود زعيمه إلى رئاسة الوزراء. أما الآن فحتى إذا فاز أحد المرشحين في تصويت الحزب الداخلي، فسيتعين عليه إقناع أحزاب أصغر بدعمه لإيصاله إلى المنصب»، وأضافت: «لا توجد أي ضمانات، لذلك عليهم أن يختاروا زعيماً يثقون تماماً بقدرته على اجتياز العقبة الأولى».

وأشارت ناكاباياشي إلى أن الاستراتيجية التقليدية للحزب، القائمة على توحيد المعتدلين والمحافظين لاستقطاب طيف واسع من الناخبين بوصفه الخيار الأكثر أماناً، باتت تفقد بريقها، كما أن الأجندة التحفيزية التي أعادت للحزب حيويته مؤقتاً في عهد الراحل شينزو آبي، استنفدت أغراضها. وفي المقابل نجح الشعبويون الأكثر مرونة في «حزب الابتكار الياباني» و«الحزب الديمقراطي من أجل الشعب» وحزب «سانسيتو» في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لاجتذاب الناخبين الشباب بعيداً عن الحزب الليبرالي الديمقراطي.

وبلغت هذه التحديات ذروتها في يوليو، عندما خسر الحزب أغلبيته في مجلس الشيوخ، بعد أن كان قد فقد السيطرة على مجلس النواب في أكتوبر من العام الماضي.

وكان إيشيبا يواجه منذ أشهر ضغوطاً للتنحي عن رئاسة الوزراء، غير أنه تمسك بالبقاء إلى حين انتهاء المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة. وقد وقع الجانبان مذكرة تفاهم بالفعل. كما أن إعلان استقالته جاء استباقاً لتصويت داخلي كان مقرراً الاثنين، وكان متوقعاً أن يفرض على الحزب إجراء انتخابات عاجلة لاختيار زعيم جديد.

وأوضح توبياس هاريس، المحلل السياسي في مؤسسة «فورسايت جابان»، أن التقرير الداخلي الذي نشره الحزب الأسبوع الماضي لتقييم خسائره تجنب تحميل إيشيبا أو فضائح سابقة المسؤولية. وقال: «ما حصلنا عليه بدلاً من ذلك كان تقريراً جدياً يشرح أسباب تراجع الدعم للحزب. وكان تقريراً قاسياً. لقد أظهر حزباً منفصلاً عن نبض الشارع، لذا هذه المرة بات واضحاً تماماً أن الحزب الليبرالي الديمقراطي يواجه أزمة حقيقية».

وتابع هاريس قائلاً: «إن أقوى فترات الحزب كانت دوماً في ظل قادة ذوي كاريزما يضخون طاقة وحيوية في المشهد السياسي، أكثر من تقديم سياسات محددة». وأوضح أن الشعب الياباني كان مستعداً لغض الطرف عن الأخطاء إذا رأى أنّ الزعماء يبذلون جهداً واضحاً، «أما الخطيئة التي لا تُغتفر لإيشيبا، فكانت أنه سمح لنفسه بأن يُحبس في دائرة الجمود».