أنجانا أهوجا
تعاني هيوستن من مشكلة، أو هكذا يقال على نحو ما، والمدينة تعد من بين 25 مدينة كبرى في الولايات المتحدة ثبت رسمياً أنها تشهد هبوطاً أرضياً تدريجياً، وذلك وفقاً لدراسة اعتمدت على قياسات التقطت من الفضاء.
ولا تقتصر مشكلة الانخساف الأرضي (أو النزول التدريجي لمستوى سطح الأرض) على المناطق الساحلية، حيث ترتفع مستويات سطح البحر بفعل التغير المناخي، بل تمتد كذلك إلى المناطق الداخلية، إذ يؤدي الإفراط في استخراج المياه الجوفية إلى تفريغ طبقات الرواسب تحت سطح الأرض، بينما يضيف التوسع العمراني أوزاناً هائلة على هذه الطبقات، والنتيجة: هبوط بطيء ومستمر لمستوى سطح الأرض.
ويمكن لهذا الهبوط أن يضعف من البنية التحتية الضرورية، بما في ذلك المباني، والجسور، والبالوعات، كما يمكن لذلك أن يقلص من قدرة طبقات المياه الجوفية على الاحتفاظ بالمياه، وزيادة مخاطر الفيضانات، ما يسفر عن حفر بالوعية، وتعزز هذه النتائج الجديدة من الحاجة إلى التعامل بجدية أكبر كثيراً مع الانخساف الأرضي، وهو الخطر الذي يتفاقم بسبب التغير المناخي والنمو السكاني الحضري، ولا يعني بطء وتيرة الهبوط الأرضي أنه يمكن تجاهله.
ويمكن استخدام الأقمار الصناعية الرادارية لقياس علو مستوى الأرض عن طريق بث نبضات ميكروويف نحو الأرض، وقياس المدى، الذي تستغرقه عودة صدى هذه الموجات إلى الأقمار الصناعية.
وشارك ليونارد أوهنهين من مرصد لامونت دوهيرتي الأرضي بجامعة كولومبيا مع باحثين، يعمل معظمهم لدى الجامعة والمعهد التقني لولاية فيرجينيا، في فحص البيانات المستقاة من قمر سنتنيل - 1 الاصطناعي، والتي جمعت بين عامي 2015 و2021.
وبمقارنة أصداء الصدى الملتقطة في أوقات مختلفة في 28 مدينة هي الأكثر ازدحاماً في البلاد، تمكن الباحثون من حساب مقدار حركة الأرض صعوداً أو هبوطاً.
وبحسب ما نشر الأسبوع الماضي في مجلة «نيتشر» فقد سجلت 25 مدينة في البلاد انخسافاً أرضياً في المتوسط وليس صعوداً أرضياً، ومن بين هذه كانت مدن بولاية تكساس، وهي هيوستون، وفورت وورث، ودالاس، الأسوأ وضعاً، إذ أظهرت انخسافاً أرضياً بأكثر من 4 مليمترات سنوياً في المتوسط.
وتجدر الإشارة إلى أن عمليات الحفر لاستخراج النفط والغاز تفرغ بدورها طبقة الرواسب الأرضية، وتهبط بعض المناطق في مدينة هيوستون بأكثر من 10 مليمترات سنوياً.
وقد يبدو هذا ضئيلاً مقارنة بأوضاع مدن أخرى تعرف بالانخساف الأرضي الشديد، الذي تعانيه، مثل جاكرتا في إندونيسيا وطهران في إيران، لكن هذه الأمثلة تتطلب حلولاً خاصة بها تقريباً، وعلى سبيل المثال شيدت إندونيسيا عاصمة إدارية جديدة، أطلقت عليها اسم نوسانتارا، ويعود ذلك جزئياً إلى الانخساف الأرضي، الذي تعانيه جاكرتا بما يصل إلى 15 سنتيمتراً سنوياً.
ويقع نصف جاكرتا تقريباً، التي يقطنها 11 مليون نسمة، تحت مستوى سطح البحر، أما طهران فتهبط بعض المناطق فيها بما يصل إلى 31 سنتيمتراً سنوياً، بسبب الجفاف وسوء إدارة المياه، وتظهر الشقوق في الطرق، بل وبعض مواقع التراث العالمي، وكذلك في المطار.
وقد ألمح الرئيس الإيراني الحالي إلى فكرة نقل العاصمة، التي تواجه نقصاً مزمناً ومستمراً للمياه، لكن حتى متوسط معدل الهبوط البطيء المسجل في كبرى المدن الأمريكية يمكن أن يخفي قدراً من التباين، إذ تقع بعض حالات الانخساف الأرضي في مناطق تشهد علواً أرضياً عاماً.
وكتب الباحثون: «من منظور الخطر الحضري قد تشهد المدن ذات التباين المكاني الأكبر أعلى المخاطر، التي تواجه البنية التحتية الحضرية»، مشيرين إلى أن المباني يمكن أن تصبح أضعف في صمت، بينما تتحرك المناطق المجاورة، وتتقلب بفعل التفاوت الهبوطي.
وللعوامل الطبيعية يد في ذلك أيضاً، مثل المخاطر الزلزالية، وتركيبة التربة، و«التكيف الجليدي المتوازن»، وهو نوع من الهبوط الارتدادي المرتبط بالذوبان التاريخي للكتل الجليدية القريبة، مثلما هي الحال في نيويورك، لكن مشكلة الانخساف الأرضي الناجمة عن النشاط البشري عالمية، ومُلحة، وآخذة في الانتشار، لا سيما في المدن سريعة النمو.
وتعد الصين واحدة من أبرز المناطق، التي تتعرض للهبوط، في ضوء هبوط حوالي نصف مدنها، بما في ذلك بكين، وتأتي مكسيكو سيتي من بين العواصم الآخذة في الهبوط هي الأخرى. وأشارت التقديرات في ورقة بحثية نشرت عام 2024 إلى أن قرابة ملياري شخص حول العالم يعيشون في مناطق متأثرة بالانخساف الأرضي ووصفت الأمر بأنه «أزمة غرق».
ويفاقم الاحتباس الحراري الحالي من المخاطر، إذ يتسبب ذوبان الطبقة المتجلدة أسفل الأرض القطبية في انخساف أرضي بولاية ألاسكا، ويضاف إلى ذلك ارتفاع منسوب مياه البحر، بحيث أصبحت الفيضانات أكثر تكراراً، ويعزز الجفاف الناجم عن التغير المناخي من الطلب على المزيد من استخراج المياه، ما يسفر عن مزيد من الاضطرابات.
ويعتقد أوهنهين أن لاغوس النيجيرية تعد مثالاً بارزاً لمدينة كبرى تعيش الأزمة، فالمدينة الساحلية المنخفضة، التي بنيت على رواسب متشبعة بالمياه، تعرف حالياً بالمباني المائلة، والأعمدة والجدران المتشققة، وكذلك المباني المتهدمة.
وأشار أوهنهين إلى أن الانخساف الأرضي نادراً ما يؤخذ بعين الاعتبار حينما تنهار المباني، لافتاً إلى التحقيقات تركز في الأغلب على قوانين البناء، والمشكلات الهندسية، والأخطاء البشرية.
وقال أوهنهين، إن «التأثير المركب للانخساف الأرضي قد يدفع بعض النواحي في المدن إلى نقاط حرجة مفاجئة، لذا، يمكن للمدن أن تتخذ إجراءات، وعليها فعل ذلك»، وتشمل طرق تخفيف تداعيات هذا الوضع جمع المياه السطحية لتقليل الحاجة إلى استخراج المياه الجوفية، وإعادة ملء الخزانات الجوفية، والحد من التطوير العقاري في المناطق المعرضة لخطر الانخساف الأرضي.
ويمكن لذلك أن يفلح، فالسياسات الأكثر صرامة في شأن إدارة المياه، والتي بدأ العمل بها منذ خمسينيات القرن الماضي نجحت بالفعل في كبح الانخساف الأرضي في مدينتي طوكيو وأوساكا اليابانيتين. إننا ربما نكون في طور هبوط عالمي، لكن ما زال بإمكاننا أن نعلو ونرتفع.