مارتن ساندبو
إذا كان للاتحاد الأوروبي أن يقدّم درساً للعالم، فهو بلا شك قدرته على تحويل أعداءٍ سابقين تقاتلوا حتى الموت إلى شركاء يعملون معاً لتحقيق أهداف مشتركة، وهو ما يعبّر عنه شعاره: «متحدون في التنوع». لكن في المقابل، كثيراً ما يُعزى ضعف الاتحاد الأوروبي على الساحة الجيوسياسية إلى غياب وحدته الداخلية.
والفرضية الضمنية هنا أن الانقسام يولّد العجز عن اتخاذ القرار. غير أن السؤال المشروع هو: ماذا لو كان العكس هو الأقرب إلى الحقيقة؟ فربما يحتاج الاتحاد، لكي يصبح أكثر حسماً، إلى التعايش مع الانقسام بدلاً من اعتباره عيباً ينبغي تفاديه.
ولنأخذ مثلاً اتفاقية التجارة الجديدة مع مجموعة دول «ميركوسور»، التي أحالتها المفوضية الأوروبية منذ أيام إلى الدول الأعضاء والبرلمان الأوروبي للتصديق عليها بعد 26 عاماً من المفاوضات. ولا شك أن هذا إنجاز يستحق الاحتفاء، وإن كان رهيناً بنتيجة التصويت. لكن قبل ذلك، يفرض تساؤل جوهري نفسه: كيف استغرق الأمر كل هذا الوقت؟
وبينما تقع السياسات التجارية صراحة في صميم صلاحيات بروكسل، فقد ظلت المفوضية الأوروبية لعقود مترددة أمام قلة من الدول ذات المصالح الزراعية القوية، وفي مقدمتها فرنسا. وكان الخوف دائماً أن تتمكّن باريس من حشد أقلية معرقلة من الدول.
ورغم أن إضافة بعض «المحفزات» أو التنازلات كان أمراً منطقياً، فإن سنوات طويلة ضاعت في محاولة تحسين الاتفاق بما يرضي الجميع، مع إدراك الجميع أن السعي وراء رضا الجميع ضرب من الوهم.
ولنفكر في اتفاقية تجارية أخرى: الاتفاق «المؤقت» مع الولايات المتحدة، الذي يُفترض أن يوفّر ترتيبات تجارية مستقرة (وإن كانت أسوأ من السابق). تقول بروكسل إنها تبقى أفضل من غياب أي اتفاق، لكن قلة فقط هي من تقتنع بذلك، حتى داخل أروقة المفوضية نفسها؛ فقد ألمحت تيريزا ريبيرا، مفوضة التحول والمنافسة، إلى أن تصاعد تهديدات واشنطن ضد تنظيمات الاتحاد لقطاع التكنولوجيا قد يطيح بالاتفاق. كما أن مصادقة البرلمان الأوروبي على التعديلات الجمركية التي وعدت بها بروكسل البيت الأبيض ليست مضمونة على الإطلاق.
لقد كان بإمكان المفاوضين التجاريين في المفوضية، وهم من أكثر الكوادر كفاءة، تحقيق نتائج أفضل لو تبنى قادتهم السياسيون موقفاً أكثر صدامية. فقد طُرحت مبكراً فكرة استخدام «أداة مكافحة الإكراه»، التي تمنح بروكسل صلاحيات واسعة لمعاقبة شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، مثلاً، رداً على فرض رسوم عقابية على الصادرات الأوروبية.
لكن لماذا لم يُنفّذ ذلك؟ تفسيرٌ محتمل هو الخشية من أن يقوم دونالد ترامب، بسحب دعمه لأوكرانيا. وهناك تفسير آخر يتمثل في خضوع بروكسل لحكومات الدول الكبرى التي فضّلت حماية صادراتها الوطنية. والخلاصة أن الإفراط في الخوف من الرفض يضعف النتائج.
مثال مهم آخر أن ماريو دراغي وإنريكو ليتا شددا في تقارير مؤثرة العام الماضي على أن الاقتصاد الأوروبي يعاني من التفتت الناتج عن كثرة القوانين الوطنية المختلفة. ومن بين الحلول التي طرحاها: اعتماد مزيد من «اللوائح» الملزِمة والموحّدة على مستوى الاتحاد بدلاً من «التوجيهات» التي يتم تكييفها وطنياً، وإنشاء «نظام 28» كإطار اختياري لقواعد الشركات يتجاوز قوانين الدول الأعضاء.
إن مثل هذه المشكلات تنبع من سياسة التوافق نفسها؛ إذ يسهل إقناع الدول بالتوجيهات لأنها قابلة للتفصيل وفق مصالحها الداخلية، فيما يصعب تجاوز تمسّكها بأنظمتها الوطنية. لكن النتيجة هي الجمود: مزيد من التنوع، لكن درجة أقل من الوحدة.
والدعوة هنا ليست إلى تكرار شعار «الهندسة المتغيرة» الذي يعني السماح لمجموعات من دول الاتحاد بالتكامل بدرجات مختلفة في مجالات مختلفة. هذا مهم، لكنه يستبدل إصلاحاً مؤسسياً بما هو أكثر إلحاحاً: تغيير ثقافة سياسية مهووسة بالإجماع إلى أخرى أكثر تركيزاً على المضي قدماً.
وهذا ممكن ضمن الهيكل المؤسسي القائم، فبعض القرارات تتطلب بالإلزام الإجماع، لكن كثيراً غيرها يمكن تمريره بدعم أقل وبعقلية «لننجز الأمر»؛ مثل إنهاء اتفاق «ميركوسور» بسرعة أكبر دون المبالاة بالاعتراضات الفرنسية؛ أو تفعيل «أداة مكافحة الإكراه» لزيادة قوة الاتحاد في مواجهة واشنطن؛ أو اللجوء إلى آلية «التعاون المعزّز» التي تسمح لتسع دول فقط على الأقل بسن قواعد مشتركة حتى إن عارضتها دول أخرى. وهناك أيضاً مبادرة إسبانيا لإنشاء «مختبر التنافسية» لتشكيل تحالفات راغبة في التكامل المالي.
مما لا شك فيه أن التوافق أمر جميل. وحين يتحقق، كما في حزم العقوبات ضد روسيا، فإنه يوفر أساساً سياسياً متيناً للتحرك، لكن تجربة العقوبات نفسها تُظهر أن الاتحاد اضطر إلى تليين بعض الإجراءات للحفاظ على ولاء المتعاطفين مع موسكو داخله.
والمعنى أن ثمة مقايضة بين السعي وراء الإجماع وتحقيق نتائج أكبر. وإذا كان مطلوباً من الاتحاد الأوروبي أن ينهض بدور أكبر في هذه المرحلة الخطيرة، فعليه أن يدرك أن كفة المقايضة قد مالت أكثر مما ينبغي لصالح الإجماع. وعموماً، فإن وجود اتحاد أوروبي أقل تمسكاً بالإجماع سيكون لاعباً أقوى على الساحة الدولية.
