اشتهر عن جيمس كارفيل، المستشار السياسي للرئيس الأمريكي بيل كلينتون، قوله إن سوق السندات، تفوق في أهميتها الرئيس أو حتى أشهر لاعبي البيسبول، مبرراً ذلك في عام 1993 بأن «بإمكانها أن تثير الفزع لدى الجميع». وبالفعل، لا يزال مستثمرو الدخل الثابت، بعد أكثر من ثلاثة عقود، يشكلون قوة ضاغطة شديدة التأثير، غير أن الحكومات المُفرطة في الإنفاق، رغم إدراكها لمخاطر ذلك، لا تُبدي حتى الآن ما يكفي من الجدية تجاه التحذيرات المتكررة من دائنيها.
وخلال الأسبوع الماضي، شهدت أسواق السندات العالمية موجة بيع كثيفة، قبل أن تقلّص خسائرها مع صدور بيانات الوظائف الأمريكية الضعيفة يوم الجمعة. وتعددت الأسباب وراء القفزة الأولية في العوائد؛ إذ قضت محكمة استئناف أمريكية في 29 أغسطس بأن العديد من الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب غير قانونية، ما وضع مئات المليارات من الدولارات من الإيرادات الحكومية المحتملة على المحك. ودفع ذلك المقرضين إلى المطالبة بعوائد أعلى مقابل الاحتفاظ بسندات الخزانة طويلة الأجل، التي تُعد المعيار الأساسي لتكاليف الاقتراض عالمياً. كما أن عودة مزادات الديون الحكومية بعد عطلة الصيف زادت من حدة التقلبات.
فما الذي تخبرنا به أسواق السندات؟
تُعد التقلبات التي شهدها الأسبوع الماضي، أحدث مثال لتزايد توجّس المستثمرين إزاء ارتفاع الاقتراض الحكومي، فقد تصاعد إجمالي الديون كحصة من الناتج المحلي الإجمالي بين الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من مستويات بحدود 70% في عام 2007 إلى ما يقرب من 110% بحلول عام 2023. وكان هذا مدفوعاً بالاستجابة للأزمة المالية العالمية، وجائحة فيروس كورونا، وقفزة أسعار الطاقة التي أرهقت أوروبا في أعقاب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وقد تزايدت تكاليف الاقتراض الحكومي طويل الأجل مع ازدياد أحجام الديون، مما جعل أسواق الدين عرضة للتأثر بعمليات البيع الكثيف مثل تلك التي شهدناها الأسبوع الماضي، وكان كل المطلوب مجرد شرارة.
وبصرف النظر عما ستؤول إليه أسعار الفائدة ومستويات التضخم على المدى القريب، لن تنحسر التقلبات إلا إذا سيطرت الدول على الإنفاق. وقد واجهت عوائد السندات لأجل 10 أعوام و30 عاماً للعديد من الاقتصادات المتقدمة ضغوطاً صعودية هذا العام. ويعكس هذا الأمر جزئياً تراجع ثقة المستثمرين في قدرة قادة الدول على ضبط المالية العامة لدولهم. وتضافرت المطالبات الأكبر بالإنفاق العام، سواء للأغراض الدفاعية أو بسبب شيخوخة السكان، مع تصاعد التوقعات واستعداد أكبر لتوفير دعم من جانب الدولة بعد الأزمات الأخيرة.
وفي أعقاب ردود الفعل السلبية في يونيو الماضي، اضطرت حكومة حزب العمال البريطانية إلى التراجع عن تخفيضات بالإنفاق على الرعاية الاجتماعية كانت تخطط لها رغم الأغلبية البرلمانية التي تتمتع بها. كما واجه الائتلاف الحكومي غير المستقر في فرنسا صعوبة في الاتفاق على كيفية خفض الإنفاق، في ضوء المصاعب التي ستواجه عامة الناس لا محالة، وقد أسفر ذلك كله عن جمود في الموازنة. كذلك، في اليابان، حيث يزيد حجم الديون مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي بمقدار الضِعف، يراهن المتداولون على أن عدم الاستقرار السياسي قد يبرر قيادة أقل تقشفاً.
وقد اعتمدت الحكومات على خيارات لزيادة الإيرادات مع مواجهتها صعوبة في خفض الإنفاق. ومع ذلك، وفي المملكة المتحدة، يزداد قلق المستثمرين في السندات الحكومية البريطانية من أن تؤدي مواصلة رفع الضرائب التي تستهدف الأثرياء، أو المستثمرين، أو الأعمال، إلى تقليص النمو الاقتصادي والتسبب في تدهور ظروف الديون للبلاد. وفي الولايات المتحدة، عوّض عدم اليقين بشأن الإيرادات الناجمة عن التعريفات الجمركية، التخفيضات الضريبية التي انطوى عليها «القانون الكبير والجميل»، لأن هذه التعريفات من شأنها تثبيط النشاط الاقتصادي وأن تلقي بظلالها على الإيرادات الضريبية الأوسع نطاقاً للبلاد.
تتكالب الضغوط على القادة لإيجاد حلول مالية موثوقة. وسيُبقي مزيج تراجع الطلب على السندات وازدياد المعروض منها على الاتجاه الصاعد للعوائد. وها هي المصارف المركزية حول العالم تعمل على تقليص حيازاتها من السندات الحكومية في ميزانياتها العمومية. وسيؤدي التيسير المالي المفرط في ألمانيا إلى طرح قدر أكبر من السندات الحكومية الألمانية في السوق. وفي المملكة المتحدة، باتت المعاشات التقاعدية تشتري كميات أقل من السندات الحكومية. أما أسلوب صنع السياسة المتقلّب الذي ينتهجه ترامب، بما في ذلك هجماته ضد مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فسيُبقي على التقلبات التي تعتري سوق سندات الخزانة المعيارية.
في النهاية، سيبدأ صبر سوق السندات في النفاد عما قريب، في ضوء التخبّط الذي يعتري الخطط المالية والتقلبات السياسية. وقد يُفضّل الزعماء إرجاء اتخاذ القرارات الصعبة، لكن ستفرض عليهم الأسواق اتخاذها إذا لم يتمكنوا من حشد الإرادة اللازمة لكبح جماح الإنفاق، وسيكون ذلك على وجه السرعة، وبصورة حاسمة، وبشروط لن تقبل بها الحكومات طواعية.
