جدعون راشمان
خطف جنود المشاة وهم يسيرون بخطى صارمة، والصواريخ النووية المحمولة على الشاحنات، الأنظار خلال العرض العسكري المهيب الذي شهدته العاصمة الصينية بكين، بمناسبة مرور 80 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، وحضره الرئيس شي جين بينغ، إلى جانب أكثر من 25 قائداً عالمياً، بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية.
وخلال كلمته، حرص شي جين بينغ على أن يقدم نفسه باعتباره رجل سلام، يؤمن بالتعاون القائم على «المنفعة المتبادلة». لكن الاستعراض العسكري الصيني، بعث برسالة مختلفة تماماً، خاصة لدونالد ترامب، الذي شاهد العرض من الولايات المتحدة، وبدا حزيناً لعدم دعوته.
وقال ترامب: «أعتقد أنه كان احتفالاً جميلاً ومذهلاً للغاية»، لكنه وجّه رسالة إلى الزعيم الصيني في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، جاء فيه: «أرجو منك أن تنقل أحرّ تحياتي إلى فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون، بينما تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأمريكية».
ويبدو أن الرئيس الأمريكي بات حالياً ممن يعتقدون أن روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، تهدف جميعاً إلى تقويض القيادة الأمريكية للعالم، وربما وصل إلى الاستنتاج الذي شاع في واشنطن، منذ كان جو بايدن رئيساً للبلاد.
فهذه الدول، ومعها إيران، وُصِفّت في ما سبق بأنها «محور الفوضى»، وذلك في مقال بارز كتبه ريتشارد فونتين وأندريا كيندال- تايلور في مجلة «فورين أفيرز» عام 2024.
وخلال الأشهر الأخيرة، حاول بعض المحللين التقليل من فكرة وجود «محور للفوضى»، مستندين في ذلك إلى غياب دعم ملموس من جانب روسيا أو الصين لإيران، حينما تعرضت لهجوم من جانب إسرائيل والولايات المتحدة في يونيو الماضي، لكن كوريا الشمالية لعبت دوراً مهماً في دعم استمرار آلة الحرب الروسية في أوكرانيا، خاصة بعد أن وصل جنود كوريون شماليون للقتال بجانب الروس في منطقة كورسك نهاية العام الماضي. علاوة على ذلك، فإن التجارة مع الصين كانت بمثابة شريان حياة للاقتصاد الروسي، ما سمح له بالصمود في وجه العقوبات الغربية.
وكانت المشاهد التي أبرزت تجول كيم وبوتين وشي معاً في مقدم مجموعة من قادة العالم، ذات رمزية قوية. فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تصوّر الكاميرات الزعماء الثلاثة معاً. وبغض الطرف عن اختلافاتهم الأخرى، فالقادة الثلاثة، يتشاركون في مُعتقد مُفاده أن هيكل القوة العالمي الحالي، مُثبّط لطموحاتهم الوطنية. ويرغب هؤلاء القادة في تغيير النظام العالمي، ويبدو أنهم صاروا أكثر ميلاً نحو العمل معاً نحو بلوغ هذا الهدف.
ومن المُفترض أن تكون هناك استجابة أمريكية واضحة تجاه نشوء تجمّع معادٍ للغرب، بقيادة الصين وروسيا، وأن يكون ذلك عبر تعزيز شبكة التحالفات الأمريكية الخاصة، مع محاولة اجتذاب دول غير منحازة نحو الغرب، لكن إدارة ترامب فعلت العكس تماماً، إذ حاول الرئيس الأمريكي توطيد علاقات ودية بكل من بوتين، وشي، وكيم، بينما أخذ في تهديد حلفاء الولايات المتحدة، وتنفير الدول غير المنحازة.
لم تأتِ محاولات ترامب استمالة كل من روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، بنتائج واضحة، إذ لم ينتج عن جهود ترامب لعقد صداقة بكيم خلال فترة ولايته الأولى أي شيء، بل ربما أدى انهيارها إلى ازدياد تطرّف السياسة الكورية الشمالية، حيث سرّع كيم من وتيرة تطوير أسلحة متقدمة، وتبنى سياسات أكثر عداء تجاه كل من الجارة الجنوبية والولايات المتحدة. ولم تتحقق آمال ترامب بأن تؤدي قمته الأخيرة مع بوتين إلى تسوية سلمية سريعة في أوكرانيا، فيما يبدو الزعيم الصيني غير متعجل في التجهيز لقمته هو مع ترامب.
ومنذ عودته إلى المكتب البيضاوي في يناير الماضي، لم يأتِ ترامب إلا بالارتباك والانزعاج إلى أطراف التحالف الغربي، خاصة بعد أن هدد سيادة كل من كندا والدنمارك، وفرض تعريفات جمركية بنسبة 15 % على الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لليابان وكوريا الجنوبية، وكلاهما تستضيف قواعد عسكرية أمريكية، فقد فرض عليهما تعريفات جمركية قدرها 15 %. أما تايوان، التي تعهدت الولايات المتحدة بحمايتها، فقد فرض عليها تعريفات جمركية بقيمة 20 %.
وربما كانت التحركات الجيوسياسية الأكثر إثارة للارتباك، والتي جاءت بنتائج عكسية، هي موقفه المعادي تجاه الهند. وكانت استمالة نيودلهي إلى المعسكر الأمريكي سياسة تشارك فيها كلا الحزبين بالولايات المتحدة، لأكثر من 20 عاماً، إذ نظرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى الهند، باعتبارها قوة مضادة، لا غنى عنها في مواجهة صعود الصين.
وأدى النزاع الدموي الذي نشب بين الهند والصين بطول الحدود المُتنازع عليها في عام 2020، إلى تدهور حاد في العلاقات بين نيودلهي وبكين، وكان بمثابة فرصة لواشنطن لزيادة التقارب مع الهند. وفي يناير الماضي، وقّعت الولايات المتحدة والهند اتفاقاً بشأن التقنيات الضرورية والناشئة، ما عمّق أواصر الصلة الدفاعية بين البلدين.
وتوقع البلدان أن تؤدي رئاسة ترامب إلى تحسّن العلاقات بين الولايات المتحدة والهند، لكن بدلاً من ذلك، سعى ترامب إلى تعكير صفو العلاقات مع الهند، ولأسباب تبدو تافهة إلى حد كبير، لكنها مرتبطة بكبريائه المجروح. فحينما نشب النزاع العسكري بين الهند وباكستان في مايو الماضي، سارع ترامب بأن نسب الفضل لنفسه في إنهائه.
وتماهى الباكستانيون مع الأمر، ورشّحوا ترامب للحصول على جائزة نوبل للسلام، بينما رفضت الهند تأييد الرواية الأمريكية. وخلال الشهر الماضي، فرض ترامب تعريفات جمركية بقيمة 50 % على الهند، بسبب مواصلة الهند شراء النفط الروسي.
وخلال الأسبوع الماضي، قام رئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي، بزيارته الرسمية الأولى إلى الصين، منذ سبعة أعوام، وحضر قمة منظمة شنغهاي للتعاون. ليس ذلك فحسب، بل شارك في صورة جماعية دافئة، بجانب شي وبوتين، والتي سرعان ما انتشرت في أرجاء العالم.
كان الهنود بذلك يبعثون برسالة مُتعمّدة إلى البيت الأبيض. وفي الوقت ذاته، ثمة إعادة نظر استراتيجية تجري في نيودلهي، إذ باتت اليد العليا للمدرسة الفكرية بأوساط النخبة الهندية، التي تنظر إلى روسيا باعتبارها حليفاً قديماً وموثوقاً، بينما تعتبر الولايات المتحدة غادرة، ولا يمكن الوثوق بها. ويرى جيمس كرابتري الرئيس السابق لمكتب آسيا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن تنفير الولايات المتحدة للهند، يُعد «تصرّفاً جيوسياسياً مدمراً للذات».
وفي منشور على «تروث سوشال» يوم الجمعة، قال ترامب: «يبدو أننا فقدنا الهند وروسيا لصالح الصين الأكثر عمقاً وظلمة. أتمنى لهذه البلدان مستقبلاً طويلاً ومزدهراً».
وتشيع في صفوف شبكة حلفاء الولايات المتحدة بآسيا، شكوك متزايدة، حول ما إذا كانت إدارة ترامب يمكن الاعتماد عليها. لكن ليس ثمة احتمالات كبيرة بأن تشكّل بلدان المنطقة تحالفاً فعالاً لمقاومة الهيمنة الإقليمية الصينية، دون مساعدة أمريكية. وحسب إشارة جيمس كرابتري، فإنه إذا انسحبت الولايات المتحدة من المنطقة، «ستملأ الصين ذلك الفراغ، وستصبح الدولة المسيطرة على العالم».
وفي حين لا تزال الجهود الصينية الرامية إلى بناء تحالفات بديلة لسيادة العالم غامضة في أكثريتها، إلا أن القوة العسكرية التي أظهرتها في ساحة تيانانمن، كانت ملموسة للغاية. ودفع مسؤولون صينيون بأن عرض القوة العسكري في الأسبوع الماضي، إنما كان جزءاً من سياسة «تحقيق السلام عبر استخدام القوة»، ما يعكس عزماً على أن الصين لن تتعرض أبداً للترهيب. لكن جيران الصين القلقين ليسوا مقتنعين بذلك.
ربما يتذكرون مقولة الكاتب المسرحي الروسي، أنطون تشيخوف ذات مرة: «إذا علّقت مسدساً على الحائط في الفصل الأول، فسيكون عليك استخدامه في الفصل التالي». وبالتأكيد، سيصل الكثيرون في المنطقة، والبعض في واشنطن، إلى استنتاج، مُفاده أن شي جين بينغ، علّق مسدس الصين بالفعل على الحائط.
