كاتي مارتن
بلغت موجة التحذيرات الصاخبة بشأن سوق السندات الحكومية البريطانية ذروتها في الأيام الأخيرة على نحو يثير السخرية. لكن اللافت أن مروجي سيناريوهات الكارثة الاقتصادية – من حيث لا يدرون – يسلّطون الضوء على قضية جوهرية تستحق التوقف عندها.
وإذا كنت قد أفلت من ضجيج الانتقادات الموجهة إلى المملكة المتحدة، الصادرة في معظمها عن أصوات يمينية محلية (من بينها ليز تراس – هل تذكرونها؟)، فأنت محظوظ. فخلاصة تلك الانتقادات أن السندات الحكومية البريطانية اليوم أضعف مما كانت عليه حتى بعد الانهيار الذي تسببت فيه تراس عام 2022، وأن حكومة يسارية متشددة وعاجزة تدفع البلاد نحو حافة الهاوية. ووفق هذا المنطق، فإن بريطانيا ستجد نفسها قريباً بحاجة إلى حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، كما حدث في أيام عام 1976 المظلمة.
لا يمكن التشكيك في أن المملكة المتحدة تواجه تحديات حقيقية، وهذا أمر لا خلاف عليه. كما أنه صحيح أيضاً أن عوائد السندات طويلة الأجل ارتفعت إلى مستويات مقلقة، وهو ما يعكس تراجع أسعارها، غير أن حزم الإنقاذ من صندوق النقد الدولي مخصصة للدول التي تعجز عن الاقتراض من المستثمرين سواء بأسعار معقولة أو بأي سعر كان. ومن اللافت أن عملية إصدار الديون البريطانية لأجل 10 سنوات خلال الأيام الأخيرة من الأسبوع قد شهدت طلباً هائلاً، فالحكومة كانت تعتزم إصدار سندات بقيمة 14 مليار جنيه إسترليني، لكنها تلقت طلبات اكتتاب بقيمة 140 ملياراً. لذا يمكن لصندوق النقد الدولي أن يتنحى جانباً بكل تأكيد.
وبالنسبة للمقارنات مع صدمة سوق السندات البريطانية في 2022 فهي تبدو سخيفة تماماً، فالعوائد طويلة الأجل ارتفعت منذ انتخاب حزب العمال في يوليو الماضي بوتيرة أقل مما حدث خلال ثلاثة أيام فقط عقب الموازنة «المصغرة» المشؤومة التي طرحتها تراس، وهنا تبرز أهمية وتيرة تحركات السوق.
ومع ذلك، فإن الضغوط الحالية التي تظهر في سوق السندات البريطانية تشكل مصدر قلق جدي له دلالاته العميقة، ففي أسواق الدين العالمية، تمثل المملكة المتحدة «عصفور الكناري في منجم الفحم»، أي مؤشر الخطر المبكر بما قد يواجهه العالم لأن طيور الكناري أكثر حساسية من البشر للغازات السامة عديمة الرائحة مثل أول أكسيد الكربون، والنموذج الأبرز للمصير الذي قد ينتظر الحكومات التي أدمنت الاقتراض من أموال الآخرين.
والحقيقة المزعجة التي يقدمها مروجو سيناريوهات الكارثة البريطانية هي أن السندات الحكومية طويلة الأجل للدول الثرية تشهد ضعفاً في جميع الأسواق، ما يدفع تكاليف الاقتراض للارتفاع تدريجياً وبثبات. وقد قفزت بالفعل عوائد السندات البريطانية لأجل 30 عاماً خلال الأيام الأخيرة إلى أعلى مستوياتها منذ عام 1998، لتصل في إحدى اللحظات إلى 5.75%، وهو ارتفاع موجع بالفعل.
لكن العوائد على السندات الأمريكية المماثلة تعاني بدورها من «دوار الارتفاع»، وتقترب من حاجز 5%. كما أن السندات الفرنسية ارتفعت عوائدها مجدداً إلى أعلى مستوى منذ عام 2009، في ظل القلق المستمر من حالة الشلل السياسي المزمنة التي تعيشها البلاد. وحتى أسواق السندات الحكومية اليابانية، التي غالباً ما توصف بالخمول، لم تسلم هي الأخرى من الارتفاع الكبير، حيث بلغت العوائد على السندات لأجل 30 عاماً أعلى مستوياتها على الإطلاق. اختر أي دولة تشاء: ألمانيا؟ القصة نفسها تقريباً. كندا؟ نعم.
لكن ماذا عن إيطاليا؟ هنا المفاجأة، فقد خالفت هذه المرة عاداتها التاريخية وكسبت ودّ المستثمرين العالميين. لكن في كل الأحوال يبقى المغزى قائماً: ففي شتى أنحاء العالم، بات مديرو الأصول يعلنونها صراحة: «لقد طفح الكيل». فحجم الديون التي يُطلب منهم استيعابها أصبح هائلاً، ومع التراجع البطيء في الطلب طويل الأجل من صناديق التقاعد الكبرى، تضاءلت الشهية لشراء السندات طويلة الأجل بشكل ملحوظ. وإذا رغبت الحكومات في مد آجال السداد لعقود قادمة، فعليها أن تكون مستعدة لدفع أسعار فائدة أعلى بكثير للمستثمرين.
بعبارة صريحة، باتت الخيارات المطروحة أمام الحكومات كالتالي: إما الاستمرار في الاقتراض، وتحمل عقود طويلة من تكاليف الاقتراض المرهِقة التي ستقوض النمو على الأرجح؛ أو تقليص النفقات بشكل جذري؛ أو رفع الضرائب بصورة حادة؛ أو ترك التضخم يتصاعد ليقوم بـ«محو» الديون بطريقة سحرية. وأي من هذه الخيارات لا يبدو مستساغاً بالمرة.
وتجاهد المملكة المتحدة لإيجاد مخرج، رغم تمتع حزب السير كير ستارمر بأغلبية كبيرة في البرلمان. وإذا لم يتمكن من تفعيل خيار «خفض الإنفاق» بحزم، أو خيار «رفع الضرائب» لمعالجة الوضع، فإن ذلك ينذر بمستقبل قاتم لدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، حيث أدّت نهاية التيار السياسي الوسطي إلى استحالة الوصول لأي حلول توافقية.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن محاولة دونالد ترامب، شبه المعلنة، للاستحواذ العدائي على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، تشير إلى أن استراتيجيته تتمثل في خفض أسعار الفائدة قسراً وترك التضخم يتصاعد على المدى الطويل، وهو خيار يثير الاستغراب من رئيس انتُخب جزئياً بسبب استياء الناخبين من ارتفاع الأسعار، لكن هذه هي الحال للأسف.
أما الرابح من هذا المشهد حتى الآن فهي صناديق التحوّط التي كانت تراهن على اتساع الفارق بين العوائد طويلة الأجل ونظيرتها قصيرة الأجل، التي ترتبط ارتباطاً أوثق بأسعار الفائدة المرجعية. كذلك، فإن مالكي الذهب أو الأدوات المالية المرتبطة بسعره يحققون مكاسب وفيرة، بعدما سجّل الذهب مستوى قياسياً جديداً. وعندما يفضّل المستثمرون قطعاً من المعدن اللامع على «الثقة الكاملة والائتمان المضمون» من كبرى الحكومات، فهذه ليست إشارة مطمئنة على الإطلاق.
إن العلاج الناجع للعوائد المرتفعة يكمن في العوائد المرتفعة ذاتها. ففي مرحلة ما، تتحول هذه العوائد إلى فرصة مغرية يستحيل على المستثمرين تجاهلها، وهذا ما يفسر الإقبال على السندات مع اقتراب نهاية الأسبوع الماضي. بيد أن مستثمري الأسهم يدركون جيداً أنهم ليسوا بمنأى عن هذه التداعيات. لأنه حين يهوي سوق السندات إلى القاع، تتضاءل مبررات الاستثمار في الأسهم، ولا سيما تلك التي تُتداول بأسعار مبالغ فيها.
وتتكرر هذه الأسطوانة بأكملها كل بضعة أشهر، لأن الأزمة الكبرى في سوق السندات العالمية تطل برأسها دوماً، وستظل تلوح في الأفق. وما يحدث في نهاية المطاف هو أن الحكومات تضطر لتحمل تكاليف الاقتراض المتزايدة، ويقبل المستثمرون على الشراء طواعية، ليسود الهدوء مجدداً، لكن الفاتورة ستدفعها الأجيال القادمة.. والضغوط تتصاعد بوتيرة متسارعة.
