معضلة الفوائض العالمية.. كيف يعيق الادخار المفرط النمو؟

مارتن وولف

قال آدم سميث مقولته الشهيرة: «الاستهلاك هو الهدف والغاية النهائية لكل إنتاج»، ومن الصعب تصور أي غرض آخر للإنتاج، سواء في الحاضر أو المستقبل. بالمثل يجب أن يكون الاستهلاك هو الغاية من التجارة الدولية، لكن، ماذا لو بدا أن الأطراف الفاعلة الأكبر لا تؤمن بهذا المبدأ؟ في هذه الحالة سيختل أداء النظام العالمي بالتأكيد. ويجب أن ننطلق في مناقشة هذه المسألة من مبدأ أساسي في اقتصادات جون ماينارد كينز، وهو أن الإنفاق الفعلي هو ما ينشط المدخرات الكامنة، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن هذا الإنفاق المطلوب سيحدث تلقائياً، وقد أطلق كينز على هذه الظاهرة اسم «مفارقة الادخار»، حيث قد يتطلب الحفاظ على مستويات عالية من النشاط الاقتصادي اتخاذ تدابير سياسية.

واليوم فإن المدخرات الهيكلية الفائضة لعدد من الاقتصادات، أبرزها الصين وألمانيا واليابان، يعوضها إلى حد كبير (ويفعّلها أيضاً) الإنفاق الفائض لأكثر الدول جدارة ائتمانياً على مستوى العالم، وهي الولايات المتحدة (وكذلك المملكة المتحدة إلى حد أقل). والأرقام مذهلة إن ألقينا نظرة عليها، فقد سجلت هذه الاقتصادات الثلاثة المتمتعة بفوائض كبيرة، فوائض إجمالية في الحساب الجاري قدرها 884 مليار دولار في عام 2024.

كما بلغت الفوائض لأبرز 10 دول ما يصل إلى 1.56 تريليون دولار، لكن هذه الفوائض لم تتأتَ إلا من خلال عجز، ولذلك فقد سجلت الولايات المتحدة عجزاً في الحساب الجاري قدره 1.13 تريليون دولار، ولم تُضِف المملكة المتحدة إلى هذا الرقم إلا 123 مليار دولار، ولعل رئاسة دونالد ترامب أحد أعراض هذا الواقع، لكن بصورة جزئية.

ومع ذلك، فحتى هذا الأمر يتسم بالغرابة، فالمدخرات الفائضة لهذه البلدان لا يتم استيعابها مثلما كان الوضع في نهاية القرن التاسع عشر عن طريق الاستثمار في الدول الناشئة والنامية الديناميكية، بل تُعوَّض عن طريق اقتراض الدولة الأكثر ثراء عالمياً. علاوة على ذلك، لم يكن تمويل القطاع الخاص هو المقابل المحلي لهذا الادخار، وإنما اقتراض الحكومة، وهو ما يجري منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على الأقل.

وقبل الأزمة المالية لعام 2008 كان الإنفاق المحلي مدفوعاً بصورة أساسية بطفرات عقارية مموّلة بالائتمان، ولم تكن هذه الظواهر قاصرة فقط على الولايات المتحدة، رغم أنها كانت دائماً أكبر مقترضة على مستوى العالم، وفي منطقة اليورو والمملكة المتحدة أيضاً كان صافي اقتراض الدول ذات العجز الهائل في الحساب الجاري، قبل الأزمة المالية العالمية، مدفوعاً إلى حد كبير بفقاعات العقارات الممولة بالائتمان، مثلما كان الحال في إيرلندا وإسبانيا، أو بالعجز المالي مثلما حدث في اليونان، وحينما انفجرت فقاعات العقارات وانهار النظام المالي، أسفر ذلك عن عجز مالي هائل في كل مكان.

وإجمالاً، يبدو أننا غير قادرين على تحويل المدخرات الفائضة في بعض الدول إلى استثمار ذي إنتاجية في دول أخرى في الوقت الراهن، ولعل واحداً من الأسباب وراء ذلك هو أن الدول القادرة على الاقتراض بصورة مستدامة من الخارج تتمتع بعملات ذات جدارة ائتمانية، ويتم هنا استبعاد أغلبية الدول الناشئة والنامية، كما يتم استبعاد الدول الأعضاء في منطقة اليورو، التي تعاني عجزاً في الأغلب.

وفي مثل هذا العالم ليس من المفاجئ أن تكون الحكومة الأمريكية هي المقترض والمنفق المهيمن، لكن هل يعد هذا نتيجة طيبة لتحرير حسابات رأس المال العالمية؟ هذا بالكاد صحيح! فتبديد كل هذه المدخرات الفائضة بهذه الطريقة دليل على فشل كبير بدلاً من استثمارها في أنشطة منتجة، لا سيما في الدول الأكثر فقراً.

بالإضافة إلى ذلك، لا تشعر الدول التي تعاني عجزاً بالسرور على الإطلاق بهذا الوضع. نعم يمكن لهذه الدول أن تنفق بصورة أكبر مقارنة بدخولها الإجمالية، لكنها بالكاد تشعر بالامتنان، ناهيك عن أن وقوع أي دولة أسيرة لعجز تجاري كبير يجعلها تستهلك قدراً أكبر من السلع والخدمات القابلة للتداول مقارنة بما تنتجه، بما أن سكانها لا يمكنهم استيراد السلع والخدمات غير القابلة للتداول من دون سفر، لذا يتسم التصنيع، وهو حجر أساس في القطاع القابل للتداول، في الدول التي تعاني عجزاً، بأنه أصغر مقارنة بالدول ذات الفائض، حيث يكون العكس صحيحاً، ويمكن لهذه المسألة أن تفسر تصاعد الحمائية الأمريكية، وكذلك حرب ترامب التجارية، وقد تكون هذه الأخيرة متسمة بالفوضوية، بل وغير عقلانية، لكن ليس من الصعب التعرّف على مصدرها، فالتصنيع مهم، سواء سياسياً أو اقتصادياً.

عموماً فالنتيجة ليست جيدة للدول ذات المدخرات الفائضة، وتُعد اليابان مثالاً بارزاً على هذه الحالة، ففي سبيل تقليصها فوائض الحساب الجاري في ثمانينيات القرن الماضي، ورضوخاً لضغوط الولايات المتحدة، تبنت اليابان سياسة نقدية مفرطة التيسير لتعزيز الطلب المحلي، وأسفر ذلك عن بروز فقاعة عقارات في البلاد. وحينما انفجرت الفقاعة في عام 1990 وقعت اليابان تحت وطأة أزمة مالية، وطلب ضعيف من القطاع الخاص، وانكماش مالي مطول، وعجز مالي هائل، ويمكننا القول إنها لم تتعافَ من كل هذا أبداً، والمذهل كذلك أن صافي الدين العام في اليابان تفاقم من 63 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990 إلى 255 % العام الماضي.

وبصورة مشابهة اضطرت الصين إلى تبديد قدر كبير من مدخراتها الفائضة بعدما أدت الأزمة المالية في عام 2008 إلى أن يكون العجز الأمريكي والفوائض الصينية في أوائل الألفية غير مستدامين، وبعد عام 2008 خاضت الصين رحلتها الخاصة مع فقاعة عقارية ضخمة، وتعاني الصين حالياً ويلات كل ذلك، وينطوي ذلك على طلب محلي ضعيف، وتضخم منخفض، وعجز مالي كبير.

وبالنسبة لألمانيا، فقد كانت بمعزل نسبياً من خلال عضويتها في منطقة اليورو، لكن الأزمة المالية التي شهدتها منطقة اليورو كانت نتيجة طبيعية هي أيضاً لفوائضها الخارجية الكبيرة، ومنذ ذلك الحين عملت منطقة اليورو على حل المشكلات، التي ألمّت بها في أعقاب الأزمة، عن طريق التصرف كما فعلت ألمانيا، وفيما سبق كانت حساباتها الخارجية متوازنة إلى حد ما، أما اليوم فقد أصبحت مصدرة صافية هائلة لرؤوس الأموال.

إن المشكلة الأكبر في اقتصادات ترامب الدولية تكمن في أنه يركز على أحد الأعراض، وهو العجز التجاري، ويسعى إلى خفضه عن طريق فرض تعريفات جمركية عشوائية، وغير عقلانية.

ربما أصبحت تداعيات هذه التعريفات أقل ضرراً بـعد الاتفاق مع الصين والانخفاض الناتج، وربما المؤقت، للتعريفات المتبادلة، لكن العجز التجاري الأمريكي سيظل قائماً دون إعادة التوازن على مستوى الاقتصاد الكلي، ومن أجل تحقيق هذا التوازن يجب على الولايات المتحدة أن تقلص عجزها المالي، بجانب إجراء تغييرات سياسية في دول أخرى، لا سيما الصين، تستهدف خفض المُدخرات الفائضة. الادخار أمر إيجابي، لكنه قد لا يكون كذلك في بعض الأحيان.