تيج باريخ
في العديد من الدول الكبرى والتكتلات التجارية، تُعدّ العوائق التي تعرقل انسياب السلع والخدمات والأفراد ورؤوس الأموال بين الأقاليم والولايات الأعضاء عوامل مثبطة للنمو الاقتصادي، بل قد تضاهي تداعياتها السلبية تأثير الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الخارجية.
ويرى سايمون إيفنيت، الأستاذ في كلية آي إم دي للأعمال، أن الحواجز الجمركية مع الدول الأخرى تكون واضحة وتحظى بتغطية إعلامية واسعة، بينما لا تحظى القيود الداخلية بالأهمية نفسها بالنظر إلى أن الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي يقع داخل حدود الدولة، محذراً من أن الأنظمة المحلية تُعيق حركة التجارة كثيراً دون ضجيج يُذكر.
وتتخذ الحواجز الداخلية أشكالاً متعددة: من شبكات معقدة للضرائب وأنظمة محلية متناقضة، إلى متطلبات ترخيص متباينة، وصولاً لضعف الترابط الإقليمي في البنية التحتية سواءً المادية أو الرقمية، وتُلحق هذه المعوقات بالإنتاجية والتنافسية أضراراً لا تقل فداحة عن تلك التي تسببها الرسوم الجمركية الدولية.
وتقدم التجربة الكندية دليلاً دامغاً على خطورة هذه الظاهرة، ففي ثاني أكبر دول العالم مساحة، حيث يمنح النظام الفيدرالي اللامركزي المقاطعات صلاحيات واسعة في التشريع التجاري، تحولت الاستقلالية إلى تشرذم، وتراكمت الحواجز البيروقراطية لتقيّد حركة السلع عبر هذا الفضاء الاقتصادي الشاسع.
وقد يكون الثمن الاقتصادي باهظاً، إذ خلص تقرير حديث لمعهد ماكدونالد-لورييه إلى أن التضارب في أنظمة النقل البري - كاختلاف شروط تأهيل السائقين ومُدد صلاحية رخص المقطورات - يرفع فاتورة الشحن بنسبة 8.3%، فيما قدر صندوق النقد الدولي أن القيود التجارية بين المقاطعات الكندية توازي في أثرها الاقتصادي فرض رسوم جمركية تناهز 21% على السلع والخدمات.
وحتى الولايات المتحدة، التي ينشغل رئيسها بملاحقة العجز التجاري الخارجي، فهي الأخرى تعاني أمن عقبات داخلية كبيرة تعيق التجارة بين الولايات.
وقال سكوت لينسيكوم، نائب رئيس معهد كاتو: «ننظر عادة للولايات المتحدة كسوق موحدة، لكن الواقع مغاير تماماً»، مُعدداً العراقيل من تراخيص مهنية متضاربة إلى تفاوتات ضريبية حادة وقوانين تخطيط عمراني متناقضة. وتكشف بيانات صادرة عن «كوانت غوف» عن التباين الصارخ في كثافة الأعباء البيروقراطية حتى بين الولايات المتلاصقة جغرافياً، وُقدر الخسائر السنوية الناجمة عن هذا التفتت بـ«المليارات، وربما التريليونات» من الدولارات، علماً بأن حجم التجارة الداخلية الأمريكية يلامس 20 تريليون دولار سنوياً.
وفي الصين، تتخذ الحمائية المحلية أشكالاً متعددة، منها منح معاملة تفضيلية للشركات الرائدة في كل مقاطعة عبر العقود الحكومية والتصاريح والإعفاءات من الرسوم. ورغم وفرة القوى العاملة في البلاد، يواجه العمال قيوداً تحد من حريتهم في الانتقال، إذ ترتبط استحقاقات الرعاية الاجتماعية بنظام التسجيل المنزلي المعروف بـ«هوكو»، مما يُصعّب على المهاجرين من الريف الحصول على الخدمات العامة في المناطق الحضرية، وقد أظهرت الدراسات أن العمال المهاجرين يضطرون لزيادة مدخراتهم الاحتياطية نتيجة لهذا النظام.
وفي الهند، التي تضم ولايات متعددة وجماعات تتحدث لغات مختلفة، تتضاعف التعقيدات البيروقراطية، من ضرائب محلية متشعبة وتراخيص معقدة إلى قيود صارمة على توزيع السلع الزراعية والطاقة، وهو ما يحد من حركة الأعمال بشكل ملحوظ.
وتُقدَّر تكاليف اللوجستيات في البلاد بنحو 14% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 10% في الاقتصادات المتقدمة، فيما تُشير الأبحاث إلى أن ثلث الإنفاق الهندي على اللوجستيات ينجم عن أوجه القصور في البنية التحتية.
ويمكن للحواجز المفروضة على التجارة الداخلية في أي دولة أن تُفاقم التفاوت في الدخل من خلال ترسيخ العوائق الجغرافية، وتشهد الولايات الهندية تبايناً حاداً في مصائرها الاقتصادية، ولا شك أن الاحتكاكات التجارية الإقليمية تُسهم بشكل كبير في تعميق هذه الفجوة.
وتكتسب الحواجز داخل التكتلات التجارية أهمية بالغة أيضاً، إذ يُقدّر صندوق النقد الدولي أن الحواجز التجارية داخل الاتحاد الأوروبي - بما فيها الاختلافات في الأنظمة المصرفية وأسواق رأس المال - يمكن أن تعادل رسوماً جمركية بنسبة 44% على السلع و110% على الخدمات في المتوسط.
وبإمكان منطقة تجارة رابطة آسيان أن تقلل اعتمادها على الشركاء التجاريين الخارجيين لو لم تكن حواجزها التنظيمية الداخلية - ومنها الرسوم الجمركية الإضافية والمعايير الفنية - مُرهقة إلى هذا الحد، حيث تتجه خُمس صادرات التكتل فقط إلى الأسواق الداخلية.
وكمقياس للأثر، قدّرت دراسة أجرتها إيفا فان ليمبوت، الاقتصادية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، عام 2016 أن الحواجز التجارية الداخلية في الهند شكّلت حوالي 40% من إجمالي تكلفة التجارة في المتوسط، ومن المرجح أن يكون هذا الرقم قد انخفض منذ ذلك الحين بفضل بعض الإصلاحات، لكنه يُبرز كيف أن التعريفات الجمركية ليست سوى جزء واحد من إجمالي تكلفة التبادل التجاري.
وفي كندا، كشف استطلاع أجرته شركة «بي دي أو» أن ما يقرب من 60% من الشركات الكندية العاملة في التجارة عبر المقاطعات مُنعت من التوسع إلى مقاطعات إضافية بسبب الحواجز، وبلغ متوسط التكلفة السنوية للامتثال بين المقاطعات لكل شركة 274,000 دولار كندي.
وبينما تُلقي الحروب التجارية العالمية بظلالها القاتمة على مشهد الاستثمار الأجنبي المباشر، تكشف الحقائق الاقتصادية عن معادلة مختلفة تماماً، فقد أظهرت المراجعة المنهجية للدراسات المتخصصة أن حجم السوق - وليس الانفتاح التجاري وحده - يُمثل العامل الأول والأهم في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث توفر الاقتصادات الضخمة المتكاملة قاعدة استهلاكية عريضة وآفاقاً واعدة للأرباح والسيولة المالية.
وتُبرز الأرقام حجم الفرص الضائعة، إذ يُقدر صندوق النقد الدولي أن تفكيك الحواجز التجارية بين المقاطعات الكندية في قطاع السلع فقط كفيل برفع نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 4%، في حين يمكن للتنسيق التنظيمي في الاتحاد الأوروبي أن يُقلص إلى النصف الفجوة الإنتاجية التي تفصل اقتصادات القارة العجوز عن نظيرتها الأمريكية.
ولا تحتاج البراهين على جدوى الإصلاحات إلى بحث معمق، ففي أستراليا، أتاح قانون الاعتراف المتبادل الصادر عام 1992 للسلع المُتداولة في أي ولاية أن تُباع في الولايات الأخرى دون قيود إضافية، كما رسّخ مبدأ التكافؤ المهني، ما أسهم في تنشيط حركة الشحن الداخلي وتعزيز الإنتاجية الوطنية.
وحتى الهند، التي طالما عانت من تشابك الأنظمة البيروقراطية، حققت إنجازاً لافتاً عام 2017 بإقرار ضريبة موحدة للسلع والخدمات ألغت التعددية الضريبية بين الولايات، وقد كشف تحليل حديث لبيانات الأقمار الصناعية وسجلات النقل البري أن هذا الإصلاح نجح في اختصار زمن عبور الحدود بين الولايات بما يزيد على الثلث.
ويظل التوفيق بين مقتضيات الحكم الذاتي الإقليمي ومتطلبات الوحدة الاقتصادية الوطنية تحدياً صعباً، فاللامركزية تتيح صياغة سياسات تُراعي الخصوصيات المحلية بدلاً من فرض حلول نمطية من المركز، وهو ما يُحفز النمو المحلي، إلا أن تراكم العوائق البيروقراطية بمرور الزمن يخنق المنافسة ويُكبل قدرة الشركات على التوسع ويُعقد عملية التوفيق بين المهارات المتاحة والوظائف المطلوبة، مما يضر بالمصالح الإقليمية والوطنية على حد سواء.
ومع تصاعد مخاطر الحمائية التجارية الخارجية، تتضاعف أهمية إزالة الحواجز الداخلية، حيث يحظى هذا التوجه بإجماع شبه كامل في كندا، بينما يرفع صُناع القرار الأوروبيون أصواتهم مطالبين بتعميق الاتحاد الرأسمالي، كما تدفع الحاجة الملحة لتوفير فرص العمل وتحفيز الاستهلاك في الصين نحو إعطاء الأولوية لإزالة العقبات الداخلية. لذا، يتعين على صناع القرار اغتنام هذه اللحظة، والحذر من أن ينصرف الاهتمام المفرط بحروب التعريفات الجمركية عن استنفار الإرادة السياسية والموارد الضرورية لترشيد اللوائح الداخلية.