لماذا تمسك الفيدرالي الأمريكي بموقفه متجاهلاً ضغوط ترامب؟

روبرت أرمسترونج وأيدن رايتر

حافظت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة على معدلات الفائدة دون تغيير، وهو ما توافق مع التوقعات، بيد أن لهجة اللجنة اتسمت بالصرامة في جوانب أخرى، إذ استهلت بيانها يوم الأربعاء الماضي بأنه «بالرغم من تأثر الأرقام بتقلبات صافي الصادرات، فإن الدلائل الأخيرة تومئ إلى أن الحراك الاقتصادي واصل نموه بوتيرة متينة».

وكشفت إشارة اللجنة المباشرة إلى قطاع التجارة عن اعترافها الضمني بالمسألة الجوهرية التي يتحاشى الجميع مناقشتها، ألا وهي الارتباك الذي صاحب تطبيق السياسة الجمركية المتشددة، فقد جاء التحذير التالي بعد فقرة واحدة فقط، إذ أكدت اللجنة أن «عدم اليقين بشأن المشهد الاقتصادي قد ازداد حدة»، حيث تمثل عبارة «ازداد حدة».

إضافة جوهرية للصياغة التي استخدمتها في بيان مارس، أما في الجملة التالية، فقد أضافت اللجنة الكلمات التالية: «تراقب اللجنة بعناية المخاطر المحدقة بجانبي تفويضها المزدوج، وترى أن مخاطر ارتفاع معدلات البطالة والتضخم قد تفاقمت بشكل ملحوظ».

وقال الاحتياطي الفيدرالي: «نشعر بالقلق من احتمالية الركود التضخمي»، فالفيدرالي لا يعلن توقعاته بارتفاع الأسعار والبطالة بشكل رسمي، إلا أن استعداده للتصريح بهذه المخاوف يمثل تحذيراً صارخاً – ومبرراً لقراره بالإبقاء على السياسة النقدية في وضعها الحالي حتى تشير البيانات الاقتصادية إلى ضرورة التغيير.

ولم يتجاوز المؤتمر الصحفي كونه تكراراً لهذه الفكرة الرئيسية، فقد أكد رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، مراراً، أن البنك المركزي يحتاج إلى مزيد من البيانات الملموسة قبل اتخاذ أي خطوة في أي اتجاه، ورغم اعترافه بالمفاجأة من حجم ونطاق التعريفات الجمركية.

فقد تجنب الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمحاولات دونالد ترامب لإقالته، والمسار المستقبلي لأسعار الفائدة، والانتقادات الأخيرة من كيفن وارش، خليفته المحتمل، فيما بدت الأسواق غير متأثرة، إذ لم تشهد عوائد سندات الخزانة لأجل عامين تغيراً ملحوظاً، وظلت توقعات سعر الفائدة المرجعي مع نهاية العام ثابتة عند مستوى 3.5 ـ 3.75 %.

إن هذا يمثل نوعاً من الاعتراف بصحة تحليلاتنا. فقد عرضنا توقعاتنا للاقتصاد الأمريكي، موضحين أن كل السيناريوهات محتملة، ولكن كفة المخاطر تميل نحو الركود التضخمي، وجاءت ردود القراء متوافقة مع هذه الرؤية.

حيث توقع معظمهم الخيار المتعلق بـ«الركود التضخمي» – بدرجة ثقة متوسطة، إلا أن خيار «الاقتصاد المتوازن» – حل في المرتبة الثانية بشكل مفاجئ، وكما أشار باول، فإن مسارات التضخم والبطالة والنمو محاطة بهوامش واسعة من عدم اليقين، ما يحتم على صانعي السياسات والمستثمرين والمحللين الانتظار حتى تتكشف البيانات الاقتصادية تباعاً.

وألقى وزير الخزانة سكوت بيسنت خطاباً في مؤتمر معهد ميلكن للاستثمار، جاء في إحدى فقراته: «أمريكا هي «شيلينغ» للتمويل العالمي، فنحن نمتلك العملة الاحتياطية العالمية، والأسواق الأكثر عمقاً وسيولة، وأقوى حقوق ملكية، ولهذه الأسباب، تعد الولايات المتحدة الوجهة الرئيسية لرأس المال العالمي، وهدف الإدارة هو جعلها أكثر جاذبية».

و«نقطة شيلينغ Schelling point»، للتوضيح، هي موقع توازن أو استقرار في نظام أو سوق يتجه إليه المشاركون تلقائياً دون الحاجة للتواصل حول خطة للقيام بذلك.

والقول بأن الأسواق الأمريكية تمثل نقطة شيلينغ عالمية يختلف قليلاً عن مضمون بقية الاقتباس الذي يشير ببساطة إلى أن الأسواق الأمريكية أفضل من جميع الأسواق الأخرى، لكن في جميع الأحوال، يتضح أن بيسنت يؤكد أن رأس المال العالمي يتدفق نحو أمريكا، وأن هذا تطور إيجابي تسعى الإدارة لتعزيزه.

وفي موضع آخر، قال بيسنت: «هدفنا من سياسة التجارة هو تسوية ساحة المنافسة لصالح العمال والشركات الأمريكية، فمع تكافؤ الفرص، تستطيع الصناعة الأمريكية التفوق على جميع المنافسين.

فالتعريفات الجمركية مصممة لتشجيع شركات مثل شركاتكم على الاستثمار المباشر في الولايات المتحدة، وظفوا عمالكم هنا، ابنوا مصانعكم هنا، واصنعوا منتجاتكم هنا».

ويبدو مضمون هذا البيان واضحاً أيضاً: نريد تصنيع المزيد من المنتجات محلياً، بدلاً من تصنيعها في الدول المنافسة، وبعبارة أخرى، فإن العجز التجاري الأمريكي (البالغ 1.1 تريليون دولار في 2024) يُعد أمراً سلبياً، وتسعى الإدارة إلى تقليصه.

الأشخاص— ممن يمتلكون من المعرفة بالاقتصاد الكلي ما يكفي— سيدركون وجود تناقض هنا، فإن فائض حساب رأس المال الأمريكي (حقيقة تدفق رأس المال إلى الولايات المتحدة بمعدل يفوق خروجه منها) وعجز الحساب الجاري (حقيقة أن الولايات المتحدة تستورد سلعاً أكثر مما تصدر) هما وجهان لعملة واحدة، إذ يجب أن يتوازنا، ففي عالم لا يوجد فيه عجز تجاري، لا يمكن أن يتدفق فائض رأس المال إلى الولايات المتحدة.

فكر في الأمر بهذه الطريقة: تلعب الولايات المتحدة، كما يصفها مارتن وولف، دور «الموازِن الأخير للعالم»، فالصين ودول عدة أخرى تستهلك أقل من اللازم وتنتج أكثر مما ينبغي، بينما تفعل أمريكا العكس تماماً، وما يُبقي هذا النظام غير المتوازن في حالة توازن هو التدفقات الهائلة لرأس المال نحو الولايات المتحدة، التي تساعد في تمويل استهلاكنا.

فيما يمثل وول ستريت، بمفهومه الواسع، الآلية التي تعالج تلك التدفقات، مقتطعةً الرسوم أثناء مرور الأموال بسرعة البرق، وقد بلغت هذه التدفقات حجماً ضخماً لدرجة أن الأجانب يمتلكون الآن 30 تريليون دولار في الأسهم الأمريكية وسندات الخزانة والسندات المؤسسية، وفقاً لتقديرات تورستن سلوك من مجموعة أبولو.

تخيل حجم الثروة التي حققتها وول ستريت من خلال تسهيل تلك الملكية، لذا، من المفترض منطقياً أن تنظر وول ستريت إلى أي خطة لإغلاق العجز التجاري بفزع شديد.

غير أن تصريحات بيسنت ليست متناقضة بشكل مباشر، إذ هناك عالم محتمل تتوازن فيه الحسابات الجارية وحسابات رأس المال الأمريكية مع ازدهار وول ستريت في الوقت ذاته.

وفي الواقع، هناك سيناريوهان لذلك: في الأول، يحدث نشاط استثماري هائل داخل الولايات المتحدة - يشمل إصدار السندات والطروحات العامة الأولية وعمليات الاندماج والاستحواذ وغيرها - بحيث لا يُفتقد غياب التدفقات العالمية، وفي السيناريو الثاني، ينتج الاقتصاد الأمريكي الجديد المتوازن تجارياً دخلاً هائلاً لدرجة أن البلاد تصدّر من رأس المال بقدر ما تستورد.

ونعتقد أن إدارة ترامب تستهدف أحد هذين المآلين، ومجرد صياغة هذا الهدف توضح مدى طموحه الجامح، وحجم التغييرات الهائلة المطلوبة لتحقيقه، فالقلق الأكبر ليس أن أهداف إدارة ترامب غير متماسكة مفاهيمياً، بل إنها شديدة الصعوبة في التحقيق.

لا ندري كم من الوقت سيستغرق إعادة هيكلة الاقتصاد ليتمكن من إنتاج، لنقل، نصف تريليون دولار إضافية من السلع للتصدير أو لتحل محل الواردات (علماً بأن الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الصناعي الأمريكي بلغ نحو 2.9 تريليون دولار العام الماضي).

لكنني أرجح أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً، فضلاً عن وجود عوائق كبيرة تحول دون تحقيق ذلك، وسأكتفي بذكر عائق واحد فقط، أكد عليه كل من الكاتبين كريس جايلز ومات كلاين.

إذا تم توجيه جزء كبير من الموارد (سواء كانت بشرية، مالية، أو مادية) نحو قطاعي التصنيع والتصدير، فهذا يعني بالضرورة سحب هذه الموارد من قطاعات أخرى في الاقتصاد. والمشكلة الأكبر هي أن إعادة توزيع هذه الموارد نحو التصنيع قد تجعلها أقل إنتاجية مما هي عليه الآن.

وثمة أسباب جوهرية دفعت هذه الموارد للابتعاد عن قطاع التصنيع منذ البداية، وعندما تنخفض كفاءة استخدام رأس المال، فإن الولايات المتحدة ستفقر بدلاً من أن تزداد ثراءً.

حتى لو افترضنا جدلاً ارتفاع الدخل الأمريكي وتدفق المزيد من رأس المال إلى الخارج، فإلى أين ستتجه هذه الأموال؟ إلى الصين التي تسعى الإدارة الأمريكية لتقليص الاعتماد عليها؟

ربما ترى إدارة ترامب أن «اقتصاد بايدن» كان يعاني من ضعف بنيوي يتمثل في وجود طاقة إنتاجية معطلة هائلة يمكن توجيهها لإنعاش قطاع التصنيع، غير أن كلاين يشير إلى معادلة اقتصادية حاسمة:

«كلما قل حجم الموارد المعطلة في الاقتصاد - سواء كانت مصانع متوقفة أو عمالة فائضة - كلما أصبح التوسع في التصدير يأتي على حساب أنشطة اقتصادية أخرى» ذات قيمة مضافة أعلى، فأي مستثمر عاقل سيضخ أمواله في مشاريع تنقل الموارد نحو قطاعات أقل ربحية؟ لا أحد بالتأكيد.

ويلفت مات كلاين الانتباه إلى أن تراجع سعر صرف الدولار يعكس هذه المخاوف، فلو كانت سياسات «يوم التحرير» الاقتصادية ستفضي إلى نهضة في الاستثمار المحلي، لشهدنا ارتفاعاً في قيمة الدولار لا انخفاضاً.