أهلاً بكم في العصر «الجيواقتصادي» الجديد

جيليان تيت

في نهاية الأسبوع الماضي، وبالقرب من البيت الأبيض، اجتمع عشرات الاقتصاديين من جامعات ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي في واشنطن لمناقشة الوضع «الجيواقتصادي». الجيو ماذا؟

قد يتساءل البعض. ولا عجب في ذلك، فحتى وقت قريب لم تكن هذه الكلمة تُستخدم إلا نادراً؛ ذلك لأن الكلمة تصف كيف يمكن للحكومات استخدام السياسات الاقتصادية والمالية لفرض النفوذ جغرافيا.

ولكن في الإطار الفكري للسوق الحرة في القرن العشرين، وهو الإطار الذي بنى فيه معظم المهنيين الغربيين مسيرتهم المهنية، ساد الاعتقاد بأن المصلحة الذاتية الاقتصادية العقلانية هي المسيطرة، لا السياسة، التي بدت وكأنها مشتقة من الاقتصاد، وليس العكس.

لم يعد الأمر كذلك الآن، فقد صدمت الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العديد من المستثمرين، لأنها تبدو غير عقلانية بمعايير الاقتصاد النيوليبرالي.

وسواء أكان هذا «عقلانياً» أم لا، فإنه يعكس تحولاً نحو عالم تراجع فيه الاقتصاد إلى مرتبة ثانوية مقارنة بالألعاب السياسية، ليس فقط في أمريكا، بل في أماكن أخرى كثيرة حول العالم.

لذا تسعى جامعات مثل جون هوبكنز ودارتموث وكيل وستانفورد إلى توسيع برامجها في «الجغرافيا الاقتصادية»، إلى جانب جهات مثل صندوق النقد الدولي ومعهد ميلكن ومعهد أتلانتيك.

ويحث دان أليفاريوس، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية، الشركات الآن على إنشاء منصب جديد هو «كبير مسؤولي الجغرافيا السياسية»، أو «كبير مسؤولي الجغرافيا السياسية»، «للتعامل مع الخطوط الفاصلة التي تزداد ضبابية بين التجارة وحكم الدولة»، خاصة بعد أن «غيّرت الحكومات القواعد».

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الشركات ستتبنى هذه الفكرة بالفعل. ولكن في غضون ذلك يُنصح المستثمرون وقادة الأعمال بالتركيز على 5 نقاط رئيسية في هذا النقاش الجيواقتصادي:

أولاً: لا تقتصر هذه الظاهرة على رجل واحد (ترامب)، بل تمثل نقطة تحول أكبر بكثير في روح العصر الفكري، من أمر شهدناه عدة مرات من قبل. وقد حدث أحد هذه التحولات قبل أكثر من قرن بقليل، عندما حلت السياسات القومية والحمائية محل الرؤية العولمية الإمبريالية للرأسمالية التي سادت قبل الحرب العالمية الأولى.

وجاء تحول آخر بعد الحرب العالمية الثانية، عندما ترسخت مبادئ الاقتصاد الكينزي، ثم في ثمانينيات القرن الماضي، عندما حلت أفكار السوق الحرة النيوليبرالية محل الكينزية.

وحقيقة أن البندول الفكري يتأرجح الآن مرة أخرى نحو المزيد من الحمائية القومية (مع جرعة من الكينزية العسكرية)، تتناسب مع نمط تاريخي، على الرغم من أن قلة فقط توقعت أن يتخذ هذا التأرجح هذا الشكل.

ثانياً: من الجوانب المهمة لهذا التحول في روح العصر أن الحكومات لم تعد تركز «فقط» على رفاهية بلادها المطلقة، بل على مواقعها النسبية أيضاً. وقد يبدو هذا التمييز سطحياً، لكنه بالغ الأهمية، وهو ما أوضحته ورقة بحثية شارك في تأليفها أديتيا ماتو، الخبيرة الاقتصادية في البنك الدولي، إلى جانب ميشيل روتا وروبرت ستيج.

ويعود ذلك إلى أن عقلية «الرفاهية المطلقة» تدعم تماماً التعاون التجاري، لكنها تنهار «إذا طغى التنافس على أي اعتبار لرفاهية البلد»، وهو ما يشدد عليه المؤلفون. وبعبارة أخرى، يعكس خطاب ترامب الغاضب حول «تعرض أمريكا للخداع» من قبل المنافسين تحولاً عقلياً أكبر.

ثالثاً: أحد العوامل (الواضحة) وراء هذا التنافس هو أن الصين تتحدى الآن هيمنة أمريكا الحالية. وقد شوهد هذا النمط كثيراً من قبل، كما يشير راي داليو، المتخصص البارز في صناديق التحوط، في كتاب استفزازي قادم.

ويجب على المستثمرين أيضاً ملاحظة أن داليو يشير إلى أن مثل هذا الصراع نادراً ما يُحل بسرعة أو بسلاسة، وخاصة عندما تكون هناك دورة ديون متضمنة.

رابعاً: مع لجوء الولايات المتحدة والصين إلى استراتيجيات جيواقتصادية، تحذو دول أخرى حذوها في الاستجابة. ولننظر فقط كيف يتسابق البنك المركزي الأوروبي لتطوير يورو رقمي، أو كيف تعمل المملكة العربية السعودية على تطوير حزمة التكنولوجيا الخاصة بها.

أو كيف تستخدم اليابان حيازاتها من سندات الخزانة «كورقة» في محادثات التجارة. وهذا يعني أن سياسات التكنولوجيا والتجارة والمالية والعسكرية تتداخل بطريقة لم نشهدها خلال العصر النيوليبرالي.

خامساً وأخيراً: أن السياسة الصناعية عادت بقوة. وقد بدأ هذا في أمريكا في عهد الرئيس جو بايدن، لكن ترامب يضاعف جهوده عبر فرض الرسوم الجمركية.

ولفهم ذلك، لننظر إلى كتاب جديد لافت بعنوان «السياسة الصناعية للولايات المتحدة» لمارك فاستو، وإيان فليتشر، وهما اقتصاديان مفضلان لدى جمهور ماغا، وهما يؤيدان الرسوم الجمركية، لكنهما يشددان أيضاً على ضرورة تطبيق سياسات صناعية أخرى، مستشهدين بكوريا الجنوبية واليابان والصين وألمانيا كأمثلة تحتذى.

وليس من الواضح ما إذا كان ترامب سيتبع نصيحتهم، لكن الواضح هو أن هناك قبولاً متزايداً في الولايات المتحدة بأن على الحكومة تشكيل التجارة بما يخدم المصلحة الوطنية. وهذا سيدفع مناطق مثل أوروبا حتماً إلى اتباع النهج نفسه.

وذلك كله يرعب العديد من المراقبين، خاصة أولئك الذين نشأوا في تلك الحقبة النيوليبرالية. ومن المهم ألا تتوقعوا أن يعود البندول الفكري إلى مساره قريباً، فحتى لو أبرمت الولايات المتحدة بعض الصفقات التجارية، كما يشير دان إيفاسكين من شركة بيمكو، فإن شغف ترامب بالرسوم الجمركية متأصل.

وسواء أكان ذلك للأفضل أم للأسوأ، فعلينا جميعاً أن نتعلم كيفية التعامل مع الوضع «الجيواقتصادي»، ولا يمكننا بالمرة أن نكتفي بالتمني.