روبرت أرمسترونغ
تسعى إدارة ترامب للسيطرة على السياسة النقدية، لذا بحثت عن ذريعة لإقالة أحد محافظي الاحتياطي الفيدرالي المتمرد، وتعتقد بأنها وجدت ذريعة؛ إذ تزعم أن ليزا كوك زورت بياناتها في طلب قرض عقاري.
ستقرر المحاكم الآن ما إذا كان هذا صحيحاً، وإذا كان كذلك، ما إذا كان سبباً كافياً لإقالتها، لكن مهما كان الحكم، فالجميع يعلم أن قضية كوك هي مجرد محاولة انتزاع للسلطة، وأننا قد تجاوزنا بالفعل مجرد الهجمات الخطابية على استقلال البنك المركزي.
وهناك احتمالات بغيضة كلها: الأول هو أن تحصل الإدارة على أغلبية في مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، وتستخدمها للإطاحة برؤساء بنوك الاحتياطي الفيدرالي الإقليمية الأعضاء في لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية واستبدالهم بأعضاء من حاشية ترامب. وسيؤدي ذلك إلى خلق أغلبية موالية في لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، ومنح الإدارة سلطة تحديد أسعار الفائدة.
احتمال آخر قد يبدو أقل سوءاً هو أن تُظهِر إقالة كوك -لأعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة الآخرين- أن وظائفهم تعتمد على الامتثال، وأن اللجنة، حتى إن لم تكن تحت سيطرة الإدارة المباشرة، يجب أن تغير سلوكها وفقاً لذلك.
وهناك إلى جانب ذلك السيناريو الأسوأ: أن ينحني الاحتياطي الفيدرالي للإرادة الرئاسية ويحدد أسعار الفائدة قصيرة الأجل عند مستويات منخفضة بشكل غير مناسب، فيرتفع التضخم، وتصبح توقعات التضخم غير مستقرة. وعندما يدرك الاحتياطي الفيدرالي والإدارة الرئاسية -اللذان أصبحا الآن كياناً واحداً فعلياً- خطأهما حتماً ويتراجعان عن مسارهما، لكن يكون الأوان قد فات: تتدمر مصداقية الاحتياطي الفيدرالي، ويرفض جِنّي التضخم العودة إلى القمقم.
وفي مواجهة تكاليف اقتراض مرتفعة بشكل مُنهك تلجأ الحكومة الأمريكية (كما فعلت حكومات أخرى سابقاً) إلى مناورات نقدية (قانونية) مالية يائسة بشكل متزايد: تسييل الديون، والقمع المالي، وما إلى ذلك، ويبدو كل هذا فجأة معقولاً.
لكن مع ذلك لا تزال الأسواق ثابتة، فقد وصل مؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى أعلى مستوى له على الإطلاق بعد بدء قضية كوك، وانخفضت عوائد السندات لأجل عشر سنوات، وأشار عدد من المراقبين، المتلهفين لعواقب قرار ترامب على السوق، إلى عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 30 عاماً، والذي ارتفع إلى مستويات مذهلة قبل 10 أيام، كما أن توقعات التضخم عند نقطة التعادل لم تبدِ أي تغيير، وانخفض الدولار قليلاً، لكن هذا لا يُشير إلى تحولات كبيرة في تكوينات المحافظ الاستثمارية أو التحوطات.
فما الذي يحدث؟ يرى بول كروجمان أن الأسواق سيئة في تقييم الصدمات الكبيرة، ونادراً ما يأخذ تسعير السوق في الاعتبار احتمال وقوع أحداث ضخمة ومُزعزعة للاستقرار، حتى عندما يكون الاحتمال القوي لمثل هذه الأحداث واضحاً، بدلاً من ذلك فإن النمط المعتاد هو تهاون الأسواق حتى آخر لحظة ممكنة، وتعكس الأسواق آراء تبدو آمنة للتمسك بها لأن الكثيرين يتمسكون بها، ولا يتخلى الجمهور عن هذه الآراء إلا عندما تصبح غير قابلة للاستدامة بشكل صارخ.
ويستشهد كروجمان بالنظرية العامة لكينز في هذه النقطة بالقول: «يمكن تشبيه الاستثمار المهني بتلك المسابقات الصحفية التي يتعين على المتسابقين فيها اختيار أجمل ستة وجوه من بين مائة صورة، وتُمنح الجائزة للمتسابق الذي يتوافق اختياره تقريباً مع متوسط تفضيلات المتسابقين ككل. أي أننا يجب أن نكرس ذكاءنا للتوافق مع ما يتوقعه الرأي المتوسط».
هذا له بعض نكهة ديناميكيات الهروب من البنوك: طالما يعتقد الجميع أن البنك قادر على الوفاء بالتزاماته، فهو قادر على الوفاء بالتزاماته، ما يعني أن الإجماع حول الملاءة المالية لا يتغير تدريجياً، إنه مثل انفجار سد. هناك الكثير في نقطة كروجمان/ كينيز. إنها تساعد في تفسير سبب قدرة الأسواق على تجاوز تقديرات القيمة العادلة أو تقليلها بشكل جذري. لكن هذا ليس كافياً. صحيح أن الأسواق يمكن أن تخلق مشكلة عمل جماعي، ما يوقع المشاركين في السوق في فخ لعبة الدجاج (أي ذلك النموذج في نظرية الألعاب الذي يُجسد صراعاً بين طرفين يتجنب أحدهما التراجع لتجنب الظهور بمظهر الجبان، ما قد يؤدي إلى نتيجة كارثية لكليهما).
لكنني أعتقد أيضاً أن هناك تفسيرات منطقية لاستدامة قوة الأسواق – وهي أن المستثمرين، جزئياً، ينظرون إلى المستقبل بنظرة واضحة ويتصرفون بما يحقق مصالحهم. وأستطيع التفكير في سببين يجعلان حال اللامبالاة من جانب الأسواق شبه منطقية بهذا المعنى. وصحيح أن أياً منهما لا يفسر عدم استجابة الأسواق على الإطلاق، لكن كلاً منهما يحل هذا اللغز جزئياً:
أولاً، إن الاستيلاء على الاحتياطي الفيدرالي، وإن كان ممكناً ومخيفاً للغاية، إلا أنه لا يزال يبدو مستبعداً. ونحب هنا الإشارة إلى أن ترامب شاهد التضخم يُنهي المسيرة السياسية لسلفه في البيت الأبيض. لذلك، من المنطقي أنه في مواجهة ارتفاع التضخم - الذي بدأ بالفعل - قد يتخلى عن حملته ضد البنك المركزي بسرعة كبيرة. علاوة على ذلك، قد تُبقي المحاكم ليزا كوك في منصبها. وفي سوق المراهنات، وضع المراهنون احتمالات إقالة كوك هذا العام بأقل من واحد إلى ثلاثة.
ثانياً، في عالم مُعرّض للخطر بسبب سوء السياسة النقدية الأمريكية، ستظل الأصول الأمريكية الخيار الأول للمستثمرين، ومن الخطأ الاعتقاد بأن السلوك الذي يفتقر إلى الذكاء من جانب للحكومة الأمريكية سيدفع المستثمرين إلى التخلي عن الأصول الأمريكية، والعكس هو الأرجح، فأي أزمة أمريكية هي أزمة عالمية، وفي الأزمات، يصبح حجم الأسواق الأمريكية وسيولتها وجودتها أكثر أهمية من أي وقت مضى. وباستثناء الذهب ربما (الذي عاد للارتفاع بقوة في الأيام القليلة الماضية)، قد لا يوجد ملجأ أفضل.
واللجوء إلى السيولة النقدية ليس خطة جيدة عندما يكون التهديد للأسواق ناتجاً عن التضخم. لكن هذا لا يعني أنه لن تكون هناك خسائر كبيرة في الولايات المتحدة، بل إن هذه الخسائر من المرجح أن تكون بالسوء نفسه أو أسوأ في أسواق الأسهم والسندات في أماكن أخرى. ولا تنسوا أبداً: «كل من لديه مدخرات يجب أن يمتلك شيئاً، وهناك الكثير من المدخرات. وهناك سبب لاستمرار تداولات «بيع كل ما هو أمريكي» في أبريل لمدة أسبوع تقريباً».
وبالطبع تُفسر أشكالٌ مختلفة من الحماقة البشرية القوةَ التي اتسمت بها الأسواق، فالتفاؤل قصير النظر يتبع بطبيعة الحال ارتفاعاً طويلاً، والحوافز المهنية لمديري الأموال منحرفة لدرجة أنهم يفضلون أن يكونوا مخطئين في التفاؤل على أن يكونوا متشائمين. هناك اعتقاد سائد وساذج بأن شركات التكنولوجيا/ الذكاء الاصطناعي المهيمنة على السوق لديها قصص نمو طويلة الأمد قوية لدرجة أن تقلبات الاقتصاد الكلي لا تؤثر على قيمتها.
وهناك رأي متفائل، خاطئ تاريخياً، مفاده أن خفض أسعار الفائدة مفيد دائماً للأصول الخطرة، لكن القول بأن السوق يتحرك بشكل غير متوقع لمجرد أن المستثمرين غير عقلانيين قد يكون مكلفاً. فهو يدعوك إلى التوقف عن التفكير ملياً في خيارات الأفراد الذين هم، في نهاية المطاف، كل ما في السوق.
