«وادي السيليكون» الهندي على حافة الاختناق

كريشن كوشيك – كريس كاي

قد يخيل للزائر في بعض أحياء مدينة بنغالورو، عاصمة التكنولوجيا في جنوب الهند، أنه يتجول في قلب مدينة بالو ألتو الأمريكية، فمجمعات شركات التكنولوجيا العملاقة مثل «غوغل» و«مايكروسوفت»، والمؤسسات المالية الكبرى كـ«غولدمان ساكس» و«مورغان ستانلي»، تضم مطاعم عالمية، وحضانات للأطفال، وصالات رياضية، على غرار ما يوجد في نيويورك أو سان فرانسيسكو.

لكن هذا الانطباع سرعان ما يتلاشى عند خوض تجربة التنقل اليومية، إذ قد يستغرق قطع مسافة لا تتجاوز 9 أميال نحو 4 ساعات كاملة على طريق مزدحم تصطف على جانبيه مقار بعض أكبر الشركات متعددة الجنسية في العالم.

وعلى عكس «وادي السيليكون» الأمريكي، تفتقر بعض المكاتب الفاخرة ذات التصميم العالمي إلى شبكة مياه جارية.

ورغم أن معظمها أنشأ أنظمة خاصة لتخزين المياه، فإنها لا تزال تعتمد يومياً على أسطول من الصهاريج المحمولة بالشاحنات لتلبية احتياجات ما يقارب المليون موظف في المنطقة.

وتمثل منطقة «الطريق الدائري الخارجي» المكتظة جانباً من التحول الأوسع في بنغالورو، المدينة التي كانت تعرف سابقاً ولا تزال على نطاق واسع باسم «بانغالور»، والتي انتقلت من كونها «جنة المتقاعدين» ذات المناخ المعتدل، إلى مدينة إسمنتية خانقة ومزدحمة.

وبعد أن استقطبت موجة من الاستثمارات في صناعة التكنولوجيا، أصبحت هذه الحاضرة واحدة من أبرز الأمثلة على التحديات التي تواجهها الهند في بناء بنية تحتية قادرة على مواكبة النمو السريع لاقتصادها.

ويقول ماناس داس، رئيس جمعية شركات «الطريق الدائري الخارجي»، التي تضم في عضويتها نحو 500 شركة مثل «أدوبي» و«بوينغ» و«إنتل» التي تتخذ من بنغالورو مقراً لها:

«لم يكن أحد يتوقع هذا النمو الهائل»، ولا تقتصر مهام جمعية داس على مساعدة بعض أكبر الشركات العالمية في توفير المياه، بل اضطلعت أيضاً بالضغط على سلطات المدينة كي تشرع، ولو متأخراً، في توسيع الطرق، وحتى إقناعها بمد خط المترو المؤجل منذ سنوات إلى تلك المنطقة.

ويقول داس: «ما إن تدخل إلى مجمعات التكنولوجيا حتى تجد عالماً مختلفاً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في الدخول إليها والخروج منها».

وما تواجهه بنغالورو ليس استثناءً، بل يعكس العلة الأوسع للمدن الهندية التي نشأت من دون تخطيط عمراني، في وقت تراهن فيه الحكومة بقوة على استمرار توسع قطاع التكنولوجيا. ومع تخلف قطاع التصنيع عن اللحاق بالركب، تجد الهند نفسها بحاجة إلى قطاع الخدمات، خصوصاً صناعة التكنولوجيا التي تقترب قيمتها من 300 مليار دولار، لتتحمل العبء الأكبر من نمو اقتصادها.

وتجذب وفرة الكفاءات التقنية الرخيصة في البلاد مزيداً من الشركات متعددة الجنسية لإنشاء ما يعرف بـ«مراكز القدرات العالمية»، الأمر الذي يضاعف الضغوط القائمة، وتوظف هذه المراكز مئات الآلاف من الهنود لدعم مختلف المهام الخلفية والوظائف الرقمية، لتتحول إلى محرك جديد وحاسم للنمو في أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم، في وقت تحتدم فيه المنافسة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي. ومن بين أكثر من 1800 مركز من هذا النوع في الهند، تستأثر بنغالورو وحدها بنحو الثلث.

وخلال الفترة بين 2005 و2023، تضاعفت صادرات الهند من الخدمات 6 مرات لتقفز من 53 مليار دولار إلى 338 مليار دولار، وارتفعت حصتها من الصادرات العالمية من نحو 2 % إلى أكثر من 4.5 %.

فيما ظلت حصة صادرات السلع أقل من 2 %، وفقاً لتقديرات «غولدمان ساكس»، الذي حذر من أن «النمو المرن» لقطاع التكنولوجيا، الذي يشكل ما يقرب من نصف صادرات الخدمات وفي قلبه مدينة بنغالورو، لا يمكن اعتباره أمراً مسلماً به، فقد بدأت تظهر فجوات في توافر الكفاءات التقنية، فيما يشكل تراجع الاستثمارات في البنية التحتية خطراً يهدد عدداً من المدن.

وأشار تقرير صادر عن المؤسسة العام الماضي إلى أن «النمو في هذه القطاعات يفرض ضغوطاً متزايدة على الموارد الطبيعية للمدن من منظور بيئي»، مؤكداً أن «بنغالورو، التي تحتضن أكبر حصة من شركات التكنولوجيا ومراكز القدرات العالمية في الهند، تواجه أزمة مياه حقيقية».

وخلال النصف الأول من العام الجاري، جرى شراء أو تأجير نحو 1.7 مليون متر مربع من المساحات المكتبية في بنغالورو، أي ما يعادل نصف مساحة «سنترال بارك» في نيويورك، وهو ما مثل أكثر من ثلث مجمل صفقات المكاتب في الهند، بحسب شركة الاستشارات العقارية «نايت فرانك». وكان هذا الرقم يفوق إجمالي عقود الإيجار الجديدة للمكاتب في المدينة خلال عام 2024 بأكمله، لكن المشكلة أن هذا التوسع العمراني خنق بنغالورو.

فالمدينة باتت عرضة لفيضانات سنوية، فيما أصبح مناخها المعتدل أكثر حرارة بشكل ملحوظ نتيجة تقلص غطائها الأخضر وتأثيرات التغير المناخي، في ظل تخلف التنمية الحضرية عن مواكبة التدفق السكاني الكثيف.

وقد أطلق بعض أبرز سكان المدينة انتقادات علنية كبيرة، فقد كتبت المليارديرة العاملة في قطاع الأدوية كيران مازومدار-شو على منصة «إكس» الشهر الماضي أن «الدولة تقتل الدجاجة التي تبيض ذهباً من دون أي مسؤولية في توفير بنية تحتية وخدمات مدنية أساسية، إن قوانين البناء تنتهك بغرض تحقيق الربح».

وفي مقر إحدى الشركات المحاط بالأشجار، تحدث أحد أثرياء بنغالورو بحسرة عند سؤاله عن الضغوط التي تعانيها المدينة، مشيراً بصفة خاصة إلى الطرقات المشلولة خارج مكتبه، ومشدداً على أن إدارة المدينة بحاجة إلى أن تعمل على «قدم وساق» لحل الأزمة.

وصرح أحد الرؤساء التنفيذيين لشركة تعمل في قطاع العقارات بأن سلطات بنغالورو «لا تستطيع التخطيط لهدف متحرك»، مقترحاً فرض «حظر على تأجير» مكاتب جديدة.

ويطرح تي. في. راماشاندرا، الأستاذ في المعهد الهندي للعلوم في بنغالورو، تساؤلات حول جدوى هذا النمو غير المقيد: «إذا كنا عاجزين عن توفير المياه، فلماذا نسمح بهذا التوسع؟ وما الفائدة من الادعاء بأننا محرك نمو عملاق وما شابه ذلك؟».

ويضيف راماشاندرا أنه لكي تكون مدينة ما «صالحة للعيش»، فيجب أن يتمتع سكانها ببنية تحتية وخدمات أساسية كافية، وهو ما تفشل فيه بنغالورو حالياً.