إدارة ترامب وصناعة الرقائق.. مغامرة جديدة محفوفة بالأخطاء

يتطلب إنشاء مصنع متطور لأشباه الموصلات منظومة صناعية ومالية متكاملة. وتجربة شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، الرائدة عالمياً في هذا القطاع، خير دليل على ذلك؛ فهي تنتج نحو 90% من أشباه الموصلات الأعلى أداءً في العالم.

وقد حظيت الشركة منذ تأسيسها عام 1987، بدعم حكومي واسع، وأقامت شراكات ممتدة مع عشرات المستثمرين المحليين والشركات والمؤسسات التعليمية، لتبني شبكة ابتكارية شديدة التعقيد والتكامل. ولذلك لم تعد «تي إس إم سي» أو تايوان لصناعة أشباه الموصلات مجرد شركة، بل باتت تُوصف بأنها المشروع الوطني للدولة التايوانية.

في الولايات المتحدة، يسعى دونالد ترامب اليوم لتقمص دور المخطط الصناعي التايواني في محاولة لتوطين صناعة الرقائق الإلكترونية، بعدما أصبحت الحكومة الأمريكية أكبر مساهم في شركة «إنتل» عبر استحواذها على حصة تبلغ 10% من أسهم الشركة المتعثرة.

وأوضح ترامب أن هدفه هو تعزيز القدرات الصناعية الأمريكية و«إعادة إنتل إلى عظمتها»، معتبراً الأمر صفقة جديدة يمكن لإدارته أن تجني منها المكاسب.

المعضلة تكمن في أن الرئيس الأمريكي ليس لديه على ما يبدو الاستراتيجية أو الموارد أو القدرة على التركيز اللازم لإنعاش شركة خاسرة مثل إنتل، بل يرى كثيرون أنه من المرجح أن تتسبب تدخلاته العشوائية في عمليات الشركة في إلحاق ضرر أكبر مما قد تجلبه من نفع.

ولا شك أن دوافع قوية تتعلق بالأمن القومي والاعتبارات الاقتصادية تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة بناء قدراتها في تصنيع الرقائق، فالاعتماد المفرط للعالم الغربي على أشباه الموصلات المصنعة في تايوان يمثّل نقطة ضعف جيواستراتيجية بالغة الخطورة.

وقد مارست إدارة ترامب ضغوطاً متواصلة على شركات تصنيع الرقائق الأجنبية مثل شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات لافتتاح مصانع داخل الولايات المتحدة، وحققت بعض النجاح في ذلك، بيد أنها تسعى أيضاً لتعزيز البدائل المحلية، وفي مقدمتها إنتل - النجم الآفل في قطاع التكنولوجيا الأمريكي.

وتحويل الحكومة الأمريكية لحزمة المنح البالغة 8.9 مليارات دولار، التي مُنحت لشركة إنتل بموجب قانون الرقائق، إلى حصة ملكية ليس بالفكرة الجنونية، بل إن هذه الخطوة حظيت في البداية بدعم ائتلاف واسع من الساسة الأمريكيين، بمن فيهم السيناتور اليساري بيرني ساندرز، عندما أقرت إدارة بايدن قانون الرقائق لأول مرة في 2022.

وقد أعلنت إدارة ترامب أن حصة المساهمة في إنتل ستكون من دون حق التصويت، بيد أن منهجية عمل إدارة ترامب بكاملها تقوم على التعامل مع القطاع الخاص كألعوبة بيد السلطة التنفيذية في الحكومة الأمريكية، وهنا يجب أن نتذكر أن دونالد ترامب كان قد طالب منذ فترة ليست ببعيدة بإقالة الرئيس التنفيذي لإنتل ليب-بو تان بسبب علاقاته التجارية السابقة مع الجانب الصيني، فضلاً عن وصفه السابق لقانون الرقائق بأنه «أمر فظيع، فظيع للغاية».

وأبرمت الإدارة الأمريكية صفقة مع شركتي «إنفيديا» و«إيه إم دي»، تسمح لهما بتصدير الرقائق إلى الصين مقابل تحويل 15% من عائدات تلك المبيعات إلى الحكومة الأمريكية.

كما تفاوضت على الحصول على «حصة ذهبية» في شركة «يو إس ستيل» مقابل تمرير صفقة استحواذ «نيبون ستيل» عليها. ومن المتوقع أن تتعرض شركتا أبل وإنفيديا قريباً لضغوط هائلة لزيادة مشترياتهما من رقائق إنتل، في حين قد يزداد تردد العملاء الأجانب لإنتل بشكل كبير في التعامل مع كيان مرتبط بالحكومة الأمريكية.

وقد تعهّد الرئيس الأمريكي بعقد المزيد من الصفقات على غرار صفقة «إنتل». وتحمل تدخلات ترامب في الاقتصاد ملامح أقرب ما تكون إلى ما يحدث في روسيا والصين، منها إلى الممارسات التقليدية للدولة التي طالما تصدرت الدفاع عن الأسواق الحرة عالمياً.

وقد يكون من الصحيح أن بعض القطاعات التي تتطلب استثمارات ضخمة في البحث والتطوير ورأس المال - مثل صناعة أشباه الموصلات - لا يمكن أن تزدهر من دون دعم حكومي طويل الأمد، إلا أن تجربة شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات أثبتت أن النجاح المؤسسي في هذه الصناعات يعتمد على بناء علاقات ثقة ممتدة لعقود مع العملاء والشركاء الاستراتيجيين، وليس على الصفقات السريعة والمكاسب العابرة.