هل ينجح الأوروبيون في كسر «سردية الخضوع» لأمريكا

بين هول

من بين الصور التي ستبقى راسخة في الذاكرة من الزيارة الجماعية الاستثنائية التي قام بها قادة أوروبيون إلى البيت الأبيض منذ أيام، صورة الرئيس دونالد ترامب خلف مكتبه في المكتب البيضاوي، فيما جلس القادة الأوروبيون في صف أمامه، يوجهون أنظارهم نحوه، متجاهلين عدسات الكاميرا.

وقد شبه كثيرون المشهد في هذه الصورة، التي وزعها مكتب ترامب الإعلامي، بـ «مدير مدرسة يستدعي التلاميذ المشاغبين».

للوهلة الأولى، قد يبدو المشهد تأكيداً لخضوع الأوروبيين للرئيس الأمريكي، أو ما وُصف بأنه «صيف الخضوع». فقد سبق أن شهدنا مظاهر المبالغة في التودد لترامب، خلال قمة «الناتو» في لاهاي في يونيو، ثم رضوخ الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي لقراره فرض رسوم جمركية بنسبة 15 %، من دون أي رد مماثل.

وبالنسبة إلى جيل غريسانـي مدير مركز «لو غراند كونتينان» البحثي في باريس، فإن ضعف رد الاتحاد الأوروبي على رسوم ترامب العقابية، كشف عن حالة «الخضوع أو الاستعباد الطوعي». وقال غريساني إن الأمر يُظهر كيف أن هذا «العملاق الاقتصادي»، ليس سوى «قزم سياسي»، عاجز عن خوض صراع قوة لحماية مصالحه، أو صياغة أولويات استراتيجية واضحة.

لكن، في تقديري، فإن المهمة الأوروبية إلى واشنطن، للدفاع عن أوكرانيا، وعن مصالحها الأمنية، تروي قصة مختلفة تماماً.

فقد أثبتت هذه الزيارة أن القوى الأوروبية الكبرى وبريطانيا، على استعداد، وقادرة على الانخراط في صراع قوى، لضمان عدم إجبار أوكرانيا على قبول تسوية غير عادلة وغير مستدامة، أو معاقبتها لرفضها.

وقد نجحت الجهود إلى حدٍّ ما، إذ دفعت ترامب للتراجع جزئياً عن اصطفافه مع المواقف الروسية، الذي ظهر في قمته السابقة في ألاسكا.

وقال المستشار الألماني فريدريش ميرتس للصحافيين، بعد اجتماع واشنطن: «لقد كنا مستعدين جيداً ومنسقين بشكل فعّال.

كما أننا عبّرنا عن المواقف نفسها. أعتقد أن ذلك كان مرضياً للغاية».

واختيار من يتحدث باسم أوروبا، وتنسيق الاستراتيجية في ما بينهم، ثم مع زيلينسكي، لم يكن أمراً مسلّماً به بالمرة في الظروف الطبيعية.

لكن في لحظة أزمة قصوى، تمكن الأوروبيون من تشكيل فريق يمتلك أكبر قدر من القدرة على إقناع ترامب: فقد قدمت الإيطالية جورجيا ميلوني صلة أيديولوجية، بينما وفّر الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب، رابطاً شخصياً من خلال هواية الغولف.

وحتى أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، بدت وكأنها وجدت لغة مشتركة مع ترامب، بعد بداية متوترة.

وهكذا، أظهر الأوروبيون براعة دبلوماسية، إضافة إلى فهم نفسي لطبيعة الرئيس الأمريكي. وقالت فيونا هيل المستشارة السابقة لترامب حول الشؤون الروسية، لمجلة «بوليتيكو»: «أعتقد أنهم قاموا بعمل جيد».

وقد تمثّل الإنجاز الأبرز من هذه الزيارة، في تعهّد ترامب بتقديم بعض أشكال المشاركة الأمريكية في ضمانات أمنية لأوكرانيا، ولو أن العبء الأكبر سيقع على عاتق الأوروبيين.

ولا يزال هناك كثير من الغموض بشأن ما تعرضه الولايات المتحدة تحديداً، لكن بالنسبة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يُعَد ذلك بمثابة تأكيد لصحة مسار جهوده، إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، نحو إنشاء «قوة طمأنة» أوروبية في أوكرانيا، بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام.

وعلى خلاف ترامب، لا ينخدع القادة الأوروبيون بوهم أن فلاديمير بوتين مستعد لإنهاء الحرب، ما يجعل الحديث عن ضمانات أمنية، أقرب إلى نقاش نظري.

وقد منحت هذه التحركات الأوروبيين بعض أوراق الضغط، فضلاً عن تزويد أوكرانيا بـ «أوراق للتفاوض»، كما قد يصفها ترامب.

وقال ماكرون للصحافيين: «كان يجب أن نكون على الطاولة، لأننا نحن من سيوفر ضمانات الأمن المستقبلية لأوكرانيا، وقد صغنا هذا الأمر على هذا الأساس».

ويراهن الأوروبيون على أن موافقة ترامب –ولو جزئياً– على دعم الجهود الأمنية الأوروبية في أوكرانيا، ستكشف تعنّت موسكو، إذ ترفض روسيا أي وجود لقوات من دول الناتو، وتطالب بحق النقض على أي ضمانات دولية. لكن لا أحد يعلم ما إذا كان ذلك كافياً لإقناع ترامب بالانقلاب على موقفه تجاه بوتين.

في الوقت نفسه، يُرجَّح أن تُختبَر وحدة الصف الأوروبي خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، مع اتضاح ملامح «قوة الطمأنة» المحتملة، وتحديد تفويضها.

وقد أثار اقتراح المستشار الألماني فريدريش ميرتس، بمشاركة قوات ألمانية، جدلاً سياسياً واسعاً في بلاده، بما في ذلك داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.

في حين تواصل جورجيا ميلوني الدفع بفكرة بديلة، تتمثل في التزام بتقديم المساعدة لأوكرانيا، على غرار المادة الخامسة من ميثاق الناتو الخاصة بالدفاع المشترك، وهو ما يراه ماثيو سافيل من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» في بريطانيا، مجرد «سراب».

في كل الأحوال، فقد حقق القادة الأوروبيون والأوكرانيون إنجازاً دبلوماسياً لا يمكن تجاهله.

لكن، كما قال ماكرون، لم يكن ذلك سوى «مرحلة.. وما زلنا بعيدين جداً عن إعلان النصر».