يشهد نظام الطاقة في أوروبا تحولاً متسارعاً مع سعي القارة للتعجيل بالتخلص من الوقود الأحفوري، فقد شكلت طاقتا الرياح والشمس العام الماضي نحو ثلث إنتاج الكهرباء في الاتحاد الأوروبي، ارتفاعاً من نحو الخُمس فقط عام 2020، مع أن هذه الأرقام تخفي وراءها تقلبات حادة في مزيج التوليد على مدار اليوم، مع طلوع الشمس وغروبها، وتغير حركة الغيوم، وتبدل سرعة الرياح.
وتؤدي الطاقة الشمسية بشكل خاص إلى إزاحة محطات الغاز خلال ساعات النهار، وهو ما كان هدفاً مقصوداً، لكن ذلك بدأ يؤثر على الركيزة الأساسية منذ عقود للنظام الكهربائي منخفض الكربون في أوروبا الغربية: أسطول المفاعلات النووية الفرنسي.
وتضم فرنسا 57 مفاعلاً موزعة في أنحاء البلاد بقدرة إجمالية تتجاوز 60 غيغاواط، توفر نحو 70% من احتياجاتها من الكهرباء، ما يتيح لها تصدير كميات ضخمة من الكهرباء منخفضة الكربون إلى الدول المجاورة.
وقد تجلت أهميتها للأسواق الأوروبية في أواخر عام 2021 وخلال 2022 حين قادت الأعطال المفاجئة في عدد من المفاعلات إلى ارتفاع حاد لأسعار الكهرباء، وزادت من اضطراب أسواق الطاقة بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
واليوم تتكيف هذه المفاعلات مع الطفرة في الطاقة الشمسية، إذ تُظهر بيانات أسواق الكهرباء أن محطات فرنسا النووية باتت أكثر مرونة في إدارة إنتاجها بما يتناسب مع هذه التكنولوجيا، حيث تخفض طاقتها في ساعات النهار وتزيدها مع حلول المساء.
وتتيح هذه الاستراتيجية تفادي استهلاك الوقود خلال فترات النهار، حين تهبط أسعار الكهرباء بسبب وفرة إنتاج الطاقة الشمسية، وتشغيل المفاعلات عند تراجع الطاقة الشمسية مساءً وارتفاع الأسعار.
ويؤثر هذا التوجه على دور الطاقة النووية، مع تزايد الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وكذلك على أسعار الكهرباء في أوروبا، كما تثار تساؤلات بشأن تأثيره على متانة سلسلة المحطات النووية بفرنسا، المملوكة والمدارة من قبل شركة «إي دي إف» التابعة للدولة.
وتقول أينيكا أمين، كبيرة محللي أسواق الكهرباء الأوروبية في «إس آند بي غلوبال»: «نشهد تقلبات كبيرة ضخمة يومياً، حيث يقوم عدد من المفاعلات النووية بخفض إنتاجها منتصف النهار، ثم تعاود الارتفاع خلال ذروة الاستهلاك المسائية. وهذه المفاعلات تلعب دوراً محورياً في توفير المرونة للنظام، وفي الوقت نفسه تمكن شركة إي دي إف من تحقيق إيرادات أكبر، لأنها تزيد إنتاجها عندما تكون الأسعار أعلى خلال المساء».
وأوضحت أن «معدلات الأسعار التي تتمكن المحطات النووية من الحصول عليها ارتفعت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة بفضل هذا السلوك المرن للغاية». واستشهدت بيوم لافت في 3 أغسطس، حين قفز إنتاج المحطات النووية الفرنسية من 24 غيغاواط عند الساعة الواحدة ظهراً إلى 42 غيغاواط عند التاسعة مساءً.
وتابعت قائلة: «كثيراً ما تقوم المحطات النووية الفرنسية بتعديل إنتاجها، لكن شكل التوليد بالساعة وحجم المرونة تغيرا جذرياً مع نمو إنتاج الطاقة المتجددة، بالتوازي مع ضعف تعافي الطلب بعد أزمة الطاقة في عام 2022».
وينظر البعض إلى الطاقة النووية كمصدر لا يتمتع بمرونة عالية، لأنه لا يمكن تشغيل محطاتها أو إيقافها بسرعة، غير أن متحدثاً باسم شركة «إي دي إف» أشار إلى أن هذه المحطات قادرة على رفع أو خفض إنتاجها بنسبة تصل إلى 80% خلال 30 دقيقة، مرتين يومياً، وقال: «تتيح عملية التعديل تكيفاً أفضل مع تقلبات الطلب على الكهرباء، ومع الاندماج المتزايد لمصادر الطاقة المتجددة، كما يمكن أن تُستخدم لتعظيم قيمة إنتاج محطات الطاقة النووية».
وتظهر أحدث نتائج الشركة المالية، الصادرة في يوليو، أن حجم التعديل ارتفع بنسبة 16% خلال النصف الأول من عام 2025، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
وأوضح إتيان دوتاي، مدير الإنتاج النووي لدى الشركة، قائلاً: «على مدى فترة طويلة كانت تخفيضات إنتاج المحطات النووية تتم ليلاً، نظراً لانخفاض الاستهلاك خلال الليل، أما اليوم فهناك تباين أكبر، إذ تحدث التخفيضات عندما يدخل حجم كبير من الطاقة المتجددة إلى الشبكات، أي الطاقة الشمسية في منتصف النهار، وطاقة الرياح عندما تهب الرياح في أوروبا».
ويتعين على هذه المحطات أيضاً التعامل مع الظروف المناخية القاسية، إذ اضطرت محطات نووية إلى تقليص إنتاجها خلال موجات الحر لتفادي تجاوز حدود درجات حرارة الأنهار.
وترى أمين، من «إس آند بي غلوبال»، أنه نظراً لحجم الطاقة النووية الفرنسية كمصدر رئيسي في أوروبا الغربية، فإن «تزايد مستوى المرونة يلعب دوراً مهماً في تحديد الأسعار».
لكن هذا التوجه أثار أيضاً تساؤلات حول ما إذا كان التعديل السريع لإنتاج المحطات النووية يسهم في زيادة معدلات الاهتراء والتآكل، إذ جاء في تقرير لشركة «كبلر» صدر في أكتوبر بعنوان «هل الطاقة النووية مورد مرن في مزيج الكهرباء؟» أن «الإجهاد الحراري والتآكل ما زالا مصدرَي قلق، لذلك فإن التعديل، رغم ما يقدمه من فوائد كبيرة، يجب أن يطبَق بحذر».
وكانت هيئة السلامة النووية الفرنسية قد ذكرت في يناير أن تعديل إنتاج المحطات النووية قد يكون «أحد العوامل» وراء التآكل الذي تسبب في الأعطال غير المخطط لها خلال عام 2021، إلا أن المتحدث باسم إي دي إف شدد على أن «التعديل يجرى دون أي تأثير على سلامة المنشآت أو على البيئة، مع الحفاظ على الأداء الإنتاجي أيضاً».
ومع التوسع المتوقع لمصادر الطاقة المتجددة يبدو أن هذا التوجه مرشح للاستمرار.
