حرب ترامب على الاستقلالية الاقتصادية تتواصل بلا هوادة

كريس غايلز

يواصل جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومسؤولو السياسة النقدية، التأكيد على أن استقلالية البنك المركزي وابتعاده عن التجاذبات السياسية اليومية هما الضامن لاتخاذ قرارات أفضل وأكثر مصداقية.

وفي آخر مؤتمر صحفي للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، شدد باول -من دون أن يلقى اعتراضاً- على أن الاستقلالية «ظلت ترتيباً مؤسسياً خدم المصلحة العامة على نحو جيد».

وسبق لفايننشال تايمز أن قدمت ملخصاً واضحاً لمنافع استقلالية المصرف المركزي، مدعوماً بروابط ومراجع غنية. ومن بين أبرز المساهمات الأكاديمية في هذا السياق ما كتبته كارولا بايندر من جامعة تكساس في أوستن، إذ درست آثار الضغوط السياسية على البنوك المركزية حول العالم.

وقد قسمت بايندر هذه الضغوط إلى فئتين: الأولى حين قاومت البنوك المركزية التدخل السياسي، والثانية حين رضخت له.

وفي الحالتين كان التضخم أعلى، لكن الارتباط كان أوضح وأشد حين تراجعت قدرة تلك المؤسسات على الصمود أمام الضغوط.

من الصعب المجادلة أمام بيانات مستقاة من 160 مؤسسة للسياسة النقدية. وعلى سبيل المثال، فقد شهدت المصارف المركزية التي لم تواجه ضغوطاً سياسية متوسطاً لمعدل التضخم يبلغ 5.5%، أما التي كانت تقاوم الضغوط فشهدت تسجيل متوسط معدل التضخم بحدود 7.4%، أما التي خضعت للضغوط فكانت تواجه معدلاً متوسطه 9.1%.

وفي لقاء مع كارولا بايندر منذ أيام، أكدت أنها «ستظل تصنف الفيدرالي مؤسسة مقاومة للضغوط، فهو لم يخفض أسعار الفائدة نزولاً على مطالب الرئيس».

ومع ذلك، فإنها تعيد التذكير بأنه، مع مرور الوقت، تميل المصارف المركزية التي تقاوم إلى أن تشهد تضخماً آخذاً في الارتفاع، وإن كان بتأخر يصل إلى ستة أرباع. ويعني هذا أن التضخم المرتفع سيسود تقريباً حتى نهاية فترة باول.

وتتوقف مقاومة الضغوط على درجة الاستقلالية التي يحظى بها المصرف المركزي، وهو قياس تسجل فيه الولايات المتحدة حالياً مستويات دون المتوسط.

ودعونا نتعرض لبعض التحديات الفعلية التي تواجه استقلالية المصرف المركزي الأمريكي. فقد سمعنا ترامب وهو يصف باول بأنه «متصلب» و«أحمق» و«متأخر للغاية»، في حين تمتع الفيدرالي بصفة عامة بمعاملة محترمة من جانب سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأمريكي.

فقد بدأ بيسنت عمله قائلاً: «لا هو ولا الرئيس يرغبان في التأثير على قرارات الفيدرالي فيما يتعلق بأسعار الفائدة قصيرة الأجل»، لكن ترامب سرعان ما كسر هذه القاعدة، كما بدا أن بيسنت قد أذعن لما يصرح به ترامب، ففي مقابلة لاحقة أجراها مع «بلومبرغ»، أفاد بيسنت بأن الفائدة مقيدة للغاية، وتابع: «كما تعلمون، فإننا إذا نظرنا إلى أي نموذج كان، وجدنا الفائدة تسجل مستويات أقل بـ150 أو 175 نقطة أساس». فعن أي نموذج كان بيسنت يتحدث؟

إن قاعدة تايلور هي التي تنطلق منها نماذج أسعار الفائدة كافة، وهي تربط الفائدة قصيرة الأجل بمعدل الفائدة الحقيقي المحايد، ومستهدف التضخم، والفرق بين التضخم والمستهدف المحدد، وكذلك فجوة الناتج الاقتصادي. وهذه القاعدة أبعد ما تكون عن أن تكون مثالية، ويمكن أن تكون رجعية، لكنها ليست سيئة تقريباً.

وهناك العديد من مصادر البيانات المحتملة لكي نستقي منها هذه المتغيرات، وينتج فيدرالي أتلانتا تقديرات للتركيبات الممكنة كافة.

وقد قمت بمحاكاة 30 متغيراً مختلفاً لقاعدة تايلور وطبقتها على الظروف الاقتصادية الأمريكية الحالية باستخدام المتغيرات الافتراضية الصادرة عن فيدرالي أتلانتا، ولم يشر إلا متغير واحد إلى أن أسعار الفائدة الحالية مرتفعة للغاية.

وفي وقت لاحق، تراجع بيسينت عن موقفه، وقال: «لم أخبر الفيدرالي بما عليه فعله. ما قلته هو أن الوصول إلى معدل فائدة محايد يتطلب خفض الفائدة بنحو 150 نقطة أساس، لكنني لم أدعهم إلى القيام بذلك». وخلافاً للموقف الأول، فإن النسخة الثانية من تصريحات بيسينت كانت موقفاً يمكن الدفاع عنه.

من ناحية أخرى، ليس من الضرورة أن يكون وراء ترشيح ترامب لستيفن ميران كي يحل مسؤولاً في مجلس محافظي الفيدرالي هدف خبيث، فهذا من حقه بموجب النظام الأمريكي، لكن ميران يتبنى وجهات نظر مغايرة ومثيرة للاهتمام بشأن السياسة النقدية، ومن المُرجح أن يجعله ذلك مصدراً للإزعاج في مجلس محافظي الفيدرالي.

كذلك سبق لميران تبني وجهة نظر تقليدية، مثل دعمه الصريح لاستقلالية المصرف المركزي في أكتوبر من عام 2024 وقوله بوضوح: «يحقق المصرف المركزي نتائج نقدية أفضل بمرور الوقت، لأن بمقدوره اتخاذ قرارات تركز على الاقتصاد ولا يتخذ قرارات تراعي الأهداف السياسية قصيرة الأجل».

وهناك الكثير من التناقض لديه بالتأكيد، ففي مذكرة شارك في تأليفها يعود تاريخها إلى مارس 2024 بشأن إصلاح الفيدرالي، بدأ ميران حديثه بأنه يرغب في هيكل يضمن أن يعمل الفيدرالي باستقلالية كافية لوضع سياسة نقدية فعالة تخلو من التحكم السياسي، على أن يكون خاضعاً أيضاً للمساءلة أمام مؤسسات ديمقراطية.

لن يختلف مع هذا الطرح إلا القليلون. ويبدو أنه لم يلاحظ في تفاصيل المذكرة، أنها تحتوي على جملة تتناقض بصورة صارخة مع طموحاته التي أعرب عنها صراحة قبل ذلك. فقد قال: «ينبغي أن يكون أعضاء اللجنة وقادة المصرف الاحتياطي خاضعين لإمكانية العزل الفوري من جانب الرئيس لضمان خضوعهم للمساءلة أمام العملية الديمقراطية».

ومن شأن ذلك الإطاحة بالحماية الوحيدة التي يتمتع بها أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة من ترامب؛ لذلك من حسن الحظ أن ميران يبدو مرشحاً مؤقتاً في الوقت الراهن.

وبالعودة إلى سكوت بيسنت، ففي المقابلة ذاتها التي خلط فيها بين النماذج، أفاد بأنه سيجري مقابلات مع 11 مرشحاً لمنصب الرئيس التالي للفيدرالي. ومع ذلك، فقد خرج ترامب من جديد ليهدم الادعاء بوجود عملية اختيار جادة وموضوعية، حيث أخبر ترامب الصحفيين بأنه «لخص قائمة المرشحين في ثلاثة أو أربعة أسماء».

ويعد المرشحون الأبرز في الوقت الراهن، هم: كيفين هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني، وكيفين وارش، المحافظ السابق في الفيدرالي، وكريستوفر والر، المحافظ الحالي في الفيدرالي، لكن يجب ألا نستبعد أي شخص من خارج هذه القائمة؛ فترامب لديه عادة قديمة تتمثل في تعيين مساهمين في «فوكس نيوز» ومقدمي برامج في مناصب، ولا تشمل قائمة الأربعة أو الـ11 اسماً أياً من هؤلاء.