أندرو هيل
بات الذكاء الاصطناعي قادراً على إنجاز الكثير من المهام التي ظلت لعقود بيد موظفي إدارات الموارد البشرية، وهو ما يجسد بوضوح حجم التحولات العميقة التي تحدثها هذه التقنية في عالم الشركات وطبيعة العمل المؤسسي بأسره.
وتعد تجربة شركة «رينج سنترال»، المتخصصة في برمجيات الاتصالات، مثالاً حياً على هذه التحولات.
فخلال ذروة تفشي الجائحة، اضطرت الشركة إلى توظيف أربعة آلاف موظف دفعة واحدة للتعامل مع الزيادة الهائلة في قاعدة عملائها، وذلك بالتزامن مع التوسع السريع لنموذج العمل عن بُعد على مستوى العالم.
لكن خلال العامين الماضيين، قلصت الشركة فريق الموارد البشرية لديها ــ الذي توسع أثناء الجائحة ليصل إلى 300 موظف ــ إلى نحو النصف حتى أن مدير الموارد البشرية آلفين لام، أبلغ الإدارة العليا للشركة أنه لم يعد بإمكان الإدارة تحمل مزيد من التقليص في الكوادر، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي مثل «رينغو»، روبوت الدردشة المتخصص في الموارد البشرية، تساهم في الحفاظ على مستوى الخدمة ذاته بكفاءة عالية.
ويعكس استبعاد العنصر البشري من إدارات الموارد البشرية ما قد تشهده وظائف مؤسسية أخرى، إذ يقول «لام»: «معظم زملائي في مجال الموارد البشرية بوادي السيليكون يواجهون صعوبات حقيقية بسبب التوجيهات المتكررة من الإدارة العليا: استخدموا الذكاء الاصطناعي لتقليص عدد الموظفين، وتأكدوا من امتلاك الجميع مهارات التعامل معه».
لكن المشهد لا يزال في بداياته نسبياً، إذ تظهر بيانات الربع الثاني لمكتب الإحصاء الأمريكي، التي تغطي 1.2 مليون شركة، أن ما يزيد قليلاً على 9% من الشركات استخدمت الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنتاج السلع وتقديم الخدمات، إلا أن هذه النسبة آخذة في الارتفاع بوتيرة سريعة.
كما بات الرؤساء التنفيذيون في شركات كبرى مثل «سيلزفورس» و«أمازون» و«جيه بي مورغان تشيس» أكثر وضوحاً في الحديث عن الوظائف التي ستلغى والإنتاجية التي ستتحسن مع تغير طبيعة العمل بفعل تصاعد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
وفي ظل هذا التوسع السريع، تتزايد المخاوف من إسناد مهام محورية في إدارات حيوية كالموارد البشرية إلى أدوات مؤتمتة شبيهة بروبوت «رينغو» التابع لـ «رينغ سنترال»، قبل الأوان.
ويؤكد لازلو بوك، الرئيس السابق للموارد البشرية في «غوغل» والمؤسس لعدد من شركات تكنولوجيا الموارد البشرية، أن السؤال الأبرز اليوم هو ما إذا كانت مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي ستعود لرأس المال في شكل أرباح أو زيادات لرواتب التنفيذيين، أم ستوزع على العمال من خلال تقليص ساعات العمل أو زيادة الأجور، لكنه عموماً يتوقع أتمتة 80% من الوظائف في نهاية المطاف.
وينظر البعض، للأسف، إلى موظفي الموارد البشرية باعتبارهم أدوات إدارية بيروقراطية لا دور لهم سوى ملء النماذج وفرض قرارات الإدارة العليا، أو منفذين لعمليات التسريح الجماعي، لكن واقع الأمور يشير إلى أن دور إدارات الموارد البشرية لا يقتصر اليوم على إعادة تصميم آليات العمل في ظل الذكاء الاصطناعي، بل تقع على عاتقها أيضاً مهمة تدريب الموظفين على استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة أو الانتقال إلى وظائف بديلة.
وبحسب استطلاع أجرته «الجمعية الأمريكية لإدارة الموارد البشرية»، وهي جهة تمثل المتخصصين في هذا المجال، فقد تبين أنه حتى يناير 2024، كانت قرابة ثلثي المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في مجال الموارد البشرية تطبقه في «استقطاب المواهب»، أي التوظيف.
كذلك، فإن مجالات القيادة والتطوير، مثل الدورات التدريبية أو برامج الإرشاد، وإدارة الأداء، كانت من بين الاستخدامات الأكثر شيوعاً أيضاً.
وفي شركة «فينداستا تكنولوجيز» الكندية المتخصصة في البرمجيات، لا يزال فريق الموارد البشرية يراجع جميع طلبات التوظيف الواردة، لكن الشركة تخطط لاستخدام وكيل توظيف آلي يدعى «سكوت» لتولي مقابلات المرحلة التالية عبر الهاتف باستخدام مجموعة موحدة من الأسئلة، ما قد يوفر، وفقاً لكيم كوتس، مديرة عمليات الأفراد، أكثر من 1000 ساعة من وقت مسؤولي التوظيف سنوياً، بحيث يمكن إعادة توجيهها نحو مهام أكثر تعقيداً.
ولطالما استخدمت الشركات أدوات آلية لفرز المتقدمين حتى قبل أن تطلق شركة «أوبن آيه آي» أداة «تشات جي بي تي» لعامة المستخدمين في نوفمبر 2022، وكان ذلك جزئياً بهدف الحد من تحيز العنصر البشري.
أما الآن، فقد باتت تستخدم الذكاء الاصطناعي لمواجهة مخاطره، إذ أصبح المتقدمون أنفسهم يوظفون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لصياغة طلبات توظيف وسير ذاتية مقنعة، بل وتقديمها بشكل آلي وعلى نطاق واسع.
وداخل المؤسسات، بدأت روبوتات المحادثة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تتولى الرد على الاستفسارات الشائعة للموظفين، مثل المواقع الخاصة بسياسات معينة أو كيفية حجز الإجازات.
وفي شركة «آي بي إم» مثلاً، تتم معالجة 94% من هذه الاستفسارات بواسطة أداة «اسأل الموارد البشرية»، التي بدأت منذ أغسطس 2024 بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي في تقديم إجابات مستمدة من قاعدة ضخمة من وثائق السياسات المعتمدة في الموارد البشرية.
مع ذلك، يبقى استخدام الذكاء الاصطناعي في أقسام الموارد البشرية محاصراً بتشابكات تنظيمية معقدة، تشمل قوانين حماية البيانات الحالية، وتشريعات جديدة مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، الذي يصنف بعض تطبيقات الموارد البشرية ضمن فئة «عالية المخاطر» لما لها من تأثير ملموس على مستقبل الأفراد المهني ومعيشتهم وحقوقهم.
من جانبها، تدرس ولاية كاليفورنيا، سن قانون جديد يعرف باسم «لا مدراء روبوتيين»، لحظر استخدام أنظمة اتخاذ القرار الآلي، مثل الذكاء الاصطناعي، في الترقية أو العقوبة أو الفصل دون إشراف بشري.
وبدأت بالفعل ملامح التقاضي تلوح في الأفق. ففي الولايات المتحدة، رفع موظف في قطاع التكنولوجيا يدعى ديريك موبلي دعوى قضائية ضد شركة «وورك داي»، مؤكداً أن خوارزمية في برنامجها لاختيار المرشحين للوظائف قد ميزت ضده على أساس السن والعرق والإعاقة، ما أدى إلى رفض طلباته لأكثر من 100 وظيفة في شركات مختلفة منذ عام 2017.
وقالت ستاسيا غار، الشريكة المؤسسة في شركة «ريد ثريد» للأبحاث المتخصصة في تكنولوجيا الموارد البشرية، إن التداعيات المحتملة لهذه القضية على قطاع تقنيات الموارد البشرية بأكمله، في ظل التوسع في أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة، «أثارت مخاوف الجميع».
أما شركة «وورك داي» نفسها فقد ردت بأن الدعوى «لا تستند إلى أساس قانوني».
وقال جون ليستر، نائب رئيس قسم تكنولوجيا الموارد البشرية والبيانات والذكاء الاصطناعي في «آي بي إم»: «كثير من مديري الموارد البشرية لا يرغبون في استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لأنهم مجبرون على ضمان امتثاله للضوابط القانونية.
أما وجهة نظرنا، فهي أنه إذا تمكنا من جعله متوافقاً مع المتطلبات التنظيمية، فسيمكننا جعله أيضاً أداة ابتكار فعالة».
وعلى سبيل المثال فقد اكتشفت «آي بي إم» من خلال اختبار تطبيقات مختلفة، أن نموذجها اللغوي الكبير المسمى «جرانيت» قدم إجابات أفضل بشأن الأسئلة الحساسة المتعلقة بمزايا الموظفين، وكانت تلك الإجابات متوافقة مع المعايير القانونية والتنظيمية.
ويرى رائد الأعمال في مجال التكنولوجيا لازلو بوك، أن على إدارات الموارد البشرية الدفاع عن دورها داخل الشركات من خلال تقديم أدلة أوضح على العائد من ورائها، مثل مقارنة الأداء الوظيفي بين الموظفين الذين تم توظيفهم عبر أدوات فرز مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وأولئك الذين جرى اختيارهم من قِبل مسؤولي توظيف بشريين.
ورغم أن شركة «آي بي إم» لم تفصح عن أرقام دقيقة، إلا أن عدد العاملين في قسم الموارد البشرية فيها أصبح أقل مما كان عليه في عام 2016.
كما انخفضت النفقات المخصصة لهذا القسم بنسبة 40% خلال السنوات الأربع الماضية، ويشمل ذلك وفورات تحققت من خلال إلغاء نحو 9 من أصل كل 10 أنظمة كان القسم يستخدمها سابقاً.