من استثناء إلى قاعدة.. كيف تحول الدعم في الغرب إلى إدمان؟

تيج باريخ
تطل علينا بين الحين والآخر بيانات تفتح زوايا جديدة لفهم المشهد الاقتصادي العالمي. وقد استوقفني هذا الأسبوع مخطط يستعرض مسار العجز المالي في الدول المتقدمة على مدى ثلاثة قرون.

ولأنه لم تعد الصعوبة التي تواجهها الحكومات في ضبط الإنفاق العام خافية على أحد فإن امتداد البيانات التاريخية يكشف بوضوح حجم المأزق الراهن، فبعد أن كان العجز المالي الكبير (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) ظاهرة عابرة تقتصر على فترات الحروب في العالم المتقدم، تحول اليوم إلى سمة راسخة حتى في أزمنة السلم. فما الذي يفسر هذا التحول؟

إن العجز المستمر في وقتنا الحاضر يعكس تحولاً جوهرياً نحو «تطبيع» الدعمين المالي والنقدي، عقب ثلاث أزمات اقتصادية كبرى متتالية خلال فترة زمنية وجيزة، ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية، ضخت حكومات الدول المتقدمة أموالاً طائلة لتوفير قروض و«حقن» رأسمالية، كما هرعت البنوك المركزية إلى خفض أسعار الفائدة وتدشين برامج للتيسير الكمي.

ورغم المساعي الحثيثة لترشيد الإنفاق في العقد التالي عاد شبح الدعم المالي الضخم مع تفشي جائحة كورونا، حيث قدمت الحكومات الكثير من المنح والقروض والضمانات، بينما توسعت السلطات النقدية في برامج شراء الأصول، وفي 2022، وعقب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، سارعت الحكومات الأوروبية إلى تخفيف وطأة القفزة الهائلة في أسعار الطاقة عبر حزم إعانات ومدفوعات لغلاء المعيشة.

بيد أن هذه التدخلات الكبيرة لا تقدم تفسيراً كاملاً للانحدار المتواصل في الموازنات الحكومية، خلال السنوات الأخيرة، وفقاً لجيم ريد، رئيس أبحاث الاقتصاد الكلي العالمي في دويتشه بنك.

ويقول ريد في هذا السياق: «صحيح أننا واجهنا صدمات كبرى، لكن التاريخ البعيد يظهر أن مثل هذه الأحداث كانت عادة ما تتبعها مساعٍ حثيثة لإعادة التوازن إلى الميزانيات بمجرد عودة النمو»، مضيفاً أن «ارتفاع العجز مؤخراً هو في جوهره خيار نتيجة لخيارات سياسية، فالرغبة السياسية للعودة إلى تحقيق فائض في الميزانية تكاد تكون معدومة».

وفي واقع الأمر فإنه من المرجح أن تكون الصدمات المتتالية والسريعة، التي عادة ما تحدث مرة كل جيل، قد ساهمت في تطبيع وترسيخ الدور الذي يلعبه الدعم الاقتصادي في تعزيز الاقتصادات المتقدمة، وذلك على النحو التالي:

أولاً: أضحت الحكومات الآن أكثر استعداداً وميلاً لمد يد العون، حتى خارج أوقات الأزمات الكبرى. وتزخر الساحة بأمثلة حديثة على الإعانات، منها إطلاق كندا لخصم مشتريات البقالة لمرة واحدة في 2023، وإلغاء إدارة بايدن لديون طلابية بقيمة 183.6 مليار دولار.

وفي يونيو الماضي، كشفت الحكومة البريطانية عن دعم بقيمة 40 جنيهاً استرلينياً لكل ميجاوات ساعة للشركات كثيفة استهلاك الطاقة في قطاعات محددة، على أن يبدأ سريانه من عام 2027.

ويمتد هذا الكرم الحكومي ليشمل القطاع المالي كذلك، وقد تجلى ذلك بوضوح عقب انهيار بنك «سيليكون فالي» في مارس 2023، حينما أطلق الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي «برنامج تمويل البنوك لأجل محدد» بشروط سخية للغاية، مع توسيع مظلة الضمانات لتشمل المودعين غير المشمولين بالتأمين.

وقد أتاح البرنامج للبنوك الاقتراض مقابل تقديم ضمانات بالقيمة الاسمية، ما عزز استقرار القطاع المالي، بيد أنه واجه انتقادات حادة لتقديمه دعماً مبالغاً فيه ولفترة أطول مما ينبغي، حيث لجأت إليه أكثر من 1800 مؤسسة، وبلغت القروض ذروتها عند نحو 165 مليار دولار قبل إغلاق البرنامج.

وتقول ديبورا لوكاس، أستاذة المالية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «لقد أظهر دعم بنك سيليكون فالي أن الجهات الرقابية باتت تخشى اتهامها بالتقاعس عن منع حالة الذعر أكثر مما تخشى تبعات تعريض مبالغ هائلة من الموارد الفيدرالية للمخاطر».

ثانياً: أسهمت حِزم التحفيز النقدي الضخمة والمتكررة منذ الأزمة المالية العالمية في ترسيخ دور البنوك المركزية كملاذ أخير وداعم لاستقرار الأسواق المالية. ويقول ستيفن بليتز، كبير الاقتصاديين الأمريكيين في «تي إس لومبارد»: «لقد ارتفعت التوقعات دون شك، فالأسواق باتت تدرك أن التباطؤ في النمو سيؤدي في مرحلة ما إلى ضخ السيولة من الفيدرالي أو خفض أسعار الفائدة».

وتتفق مع هذا التحليل ورقة بحثية نُشرت في مايو 2024 أعدها جون كوكران وأميت سيرو، الباحثان البارزان في مؤسسة هوفر، إذ ترى الورقة بأن التوقعات المستمرة بتدخل البنوك المركزي، كلما ساءت الظروف الاقتصادية تسهم في تضخيم أسعار الأسهم، وتغذي استخدام الرافعة المالية، ما يزيد من احتمالية دخول السياسة النقدية في دوامة تدخلات متصاعدة ذاتية التغذية وعمليات إنقاذ على حساب دافعي الضرائب.

كما أبدت البنوك المركزية أيضاً حذراً في التخلي عن الأصول التي راكمتها عبر التيسير الكمي خشية حدوث اضطرابات في الأسواق، ما أبقى ميزانياتها العمومية عند مستويات مرتفعة، وأسس بذلك لقاعدة سيولة أعلى هيكلياً في النظام المالي تدعم تقييمات الأصول والنشاط السوقي الراهن.

ثالثاً: يبدو أن الأزمات المتتالية الأخيرة قد رفعت سقف توقعات الجمهور بشأن الخدمات التي ينبغي على الدولة تقديمها.

وعلى سبيل المثال تظهر حسابات مستندة إلى قاعدة بيانات «مشروع البيان الانتخابي» أن الإشارات الإيجابية للدعم الحكومي، التي تشمل الرفاهية الاجتماعية والسياسات الحمائية، في برامج الحزبين الديمقراطي والجمهوري بالولايات المتحدة اتخذت منحى تصاعدياً منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبلغت ذروتها بعد الأزمة المالية العالمية.

ويشير ذلك إلى أن الساسة يتبنون بصورة متزايدة خطاباً يروج لسياسات توسع نطاق المساعدات الحكومية بهدف استمالة الناخبين.

أما في المملكة المتحدة فقد كشف المركز الوطني لأبحاث المجتمع في تقرير نشره عام 2023 أن توقعات المواطنين من الحكومة للسيطرة على الأسعار، وتقليص الفجوات في الدخل، وتقديم الدعم اللازم للصناعة لتحفيز النمو، قد بلغت جميعها مستويات غير مسبوقة.

والحقيقة أن كبح جماح الدعم لم يكن مهمة يسيرة أمام الحكومات، فقد وجد حزب العمال البريطاني نفسه مضطراً للتراجع عن اقتطاعات مزمعة في نفقات الرعاية الاجتماعية تتجاوز قيمتها 5 مليارات جنيه استرليني، بينما يعاني الساسة الفرنسيون للتوصل إلى توافق حول آليات تقليص الإنفاق، في ظل المعاناة المتوقعة التي ستلحق حتماً بالمواطنين.

خلاصة القول: إن الأزمات المتعاقبة الأخيرة قد حولت الدعم الحكومي وتدخلات البنوك المركزية من إجراءات استثنائية إلى ممارسات روتينية مستدامة تقارب الإدمان، وفي الوقت نفسه تتزايد الأعباء على كاهل الدولة بفعل الشيخوخة السكانية والتحديات الصحية ومتطلبات الأمن القومي.

ويشير جيم ريد من دويتشه بنك إلى أن الجمع بين الدعم المالي والنقدي المفرط قد ساعد بدوره على تجنب تبعات الانكماشات الاقتصادية، مضيفاً: «ليس من قبيل المصادفة أن بعض أطول الدورات الاقتصادية قد شهدناها في العقود الأخيرة».

ويستطرد قائلاً: «على مر التاريخ دفع خطر فترات الركود نحو إعادة توجيه رؤوس الأموال إلى استخداماتها الأكثر إنتاجية، غير أن مستويات الدعم الضخمة أعاقت هذه العملية، مهددة بتكريس جوانب القصور والخلل في اقتصادات العالم المتقدم».

ولا تلوح في الأفق مؤشرات على إصلاح جوهري للميزانيات في توقعات العجز المالي لدول مجموعة السبع في السنوات القادمة.

وفي ظل تداعيات ثلاث صدمات هائلة قد تبدو كل هزة اقتصادية كأنها تستدعي تدخلاً عاجلاً، إلا أن الانغماس في سياسات التخفيف المستمر يقوض في النهاية قدرة الاقتصادات على الصمود، ويعمق حالة الاتكالية، ويكرس ثقافة العجز المالي المزمن، لذلك بات لزاماً على صناع السياسات التصدي لإغراء إدارة شؤون الدولة بعقلية «الوضع الطارئ الدائم».

وبرغم ما قد تسببه الخيارات الصعبة من آلام مؤقتة إلا أنها تقي المجتمع من معاناة أشد وطأة تتمثل في تراكم الديون وتآكل الحيوية الاقتصادية في المستقبل، ويظهر التاريخ الطويل للعجز المالي مدى خطورة النهج التوسعي الحالي في الإنفاق الحكومي بصورة أكثر وضوحاً.