هل هو هدوء ما قبل العاصفة في سوق السندات الأمريكية؟

روبرت أرمسترونج - أيدن رايتر
شهد الاقتصاد الأمريكي خلال فصلي الربيع والصيف فترة مضطربة، إذ تراجعت توقعات النمو وارتفعت معدلات التضخم قليلاً، وسط تخبط واضح في مسار السياسات الجمركية، فيما وجه الرئيس دونالد ترامب انتقادات حادة ـ بل وأكثر من ذلك ـ لكل من البنك المركزي الأمريكي ومكتب إحصاءات العمل.

ورغم هذه التطورات، بدا أن سوق السندات الأمريكية تعامل مع هذه الأمور ببرود واضح؛ فمنذ منتصف أبريل ظلت عوائد سندات الخزانة (لآجال عامين وخمسة أعوام وعشرة وثلاثين عاماً) محصورة ضمن نطاق تداول ضيق يتراوح بين 25 و30 نقطة أساس، دون أن تشهد أقسام المنحنى القصير والمتوسط أي تغير يذكر مقارنة بمستوياتها في 8 أبريل، في حين ارتفعت عوائد السندات لأجل 30 عاماً بـ 13 نقطة أساس فقط.

وفي الوقت نفسه، واصلت تقلبات سندات الخزانة المستندة إلى أسعار عقود الخيارات انخفاضها المطرد على مدى شهر وثلاثة وستة أشهر، كما تعكسها مؤشرات «موف».

فكيف يمكن تفسير هذا الهدوء الظاهري؟

يشير عدد من المحللين إلى أن هذا الاستقرار يخفي وراءه حالة من الترقب المشوب بالتوتر.

فتباطؤ النمو يدفع نحو خفض العوائد، في حين أن ارتفاع التضخم والتوقعات المرتبطة به يدفع نحو زيادتها.

ويبدو أن التأثيرين يلغي أحدهما الآخر إلى حد ما. وبلغة الأرقام، انخفضت العوائد الحقيقية لسندات الخزانة لأجل 10 سنوات (المقاسة بالسندات المرتبطة بالتضخم) بمقدار 17 نقطة أساس منذ الأسبوع الأول من أبريل، وهو ما يعادل بالضبط مقدار الزيادة في توقعات التضخم للفترة ذاتها.

أما مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فيجد نفسه في موقف دقيق بين هدفي التوظيف ومكافحة التضخم.

وباختصار، فإن ما يبدو على السطح من هدوء في سوق السندات يخفي صراعاً قوياً بين قوى اقتصادية متعارضة.

ولفت غونيت دينغرا من بنك «بي إن بي باريبا» إلى أمر مهم، وهو ضرورة فهم السياق الأشمل؛ فالوضع أفضل مما كان يعتقد سابقاً، لكنه لا يعني بالضرورة أنه جيد بالمطلق.

فبينما تراجعت تقلبات سوق السندات خلال الأشهر الماضية لتبلغ أدنى مستوياتها منذ عام 2022، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من معدلات ما قبل الجائحة.

وثمة فارق جوهري بين «الوضع الجيد» و«الأقل سوءاً من المتوقع»، رغم أن الأسواق قد تتعامل معهما بطريقة متشابهة.

لكن إذا كانت هذه الصورة قاتمة نسبياً - توازن هش بين تباطؤ النمو وارتفاع طفيف في التضخم، فكيف نفسر ارتفاع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 30% خلال الأشهر الأربعة نفسها؟

التفسير المتشائم يذهب إلى أن السوق يعاني من حالة من النشوة، مدفوعة بعقلية «الشراء عند التراجع».

أما التفسير الأكثر اعتدالاً، فيرى أن الجزء الأكبر من هذا الصعود تقوده شركات التكنولوجيا العملاقة ذات الأرباح الضخمة، والتي لا ترتبط نتائجها بالضرورة بالوضع الاقتصادي العام. ومن المرجح أن يكون الواقع مزيجاً من التفسيرين معاً.

وقد جاء تقرير مؤشر أسعار المستهلكين الأخير بنتائج إيجابية بالكاد ليحافظ على استقرار توازن سوق السندات، تماماً مثلما لم يكن تقرير وظائف يوليو سلبياً بدرجة كافية لتقويض هذا التوازن. ونحن الآن نترقب بقلق ظهور أرقام أغسطس.

يأتي ذلك، فيما رشح الرئيس دونالد ترامب إي. جيه. أنتوني، كبير الاقتصاديين في مؤسسة «هيريتدج»، وهي مؤسسة بحثية محافظة، لرئاسة مكتب إحصاءات العمل الأمريكي.

وقد أثار هذا الترشيح انتقادات واسعة، إذ يشير معارضو أنتوني إلى ميوله الحزبية الواضحة وخبرته المحدودة.

وقد وجد هؤلاء النقاد مادة دسمة عندما تناقلت وسائل الإعلام تصريحات لأنتوني اقترح فيها تعليق إصدار أرقام التوظيف الشهرية الصادرة عن المكتب.

ويعتقد أن هذه التغطية الإعلامية المكثفة قد ساهمت في تراجع أداء الدولار.

إن فكرة إلغاء التقارير الشهرية هي فكرة سيئة بكل المقاييس، فتقليص وتيرة إصدار التقارير لن يسهم في تعميق فهمنا للاقتصاد. نعم، التقديرات المبكرة قد تخضع للمراجعة، لكنها تظل تزود صناع القرار والمستثمرين بمعلومات حيوية.

والأسواق تعي جيداً المعادلة الدقيقة بين سرعة إتاحة المعلومات ودقتها، وهو ما يبدو أن البيت الأبيض يفتقد إدراكه.

غير أن حجة أنتوني تحمل جزءاً من الحقيقة، إذ تقول جوان شو، من جامعة ميشيغن، والمسؤولة عن إدارة استطلاع ثقة المستهلك بالجامعة: «بيئة جمع البيانات باتت أكثر تعقيداً، وأي حل سيتطلب موارد إضافية».

وإذا لم يحصل مكتب إحصاءات العمل على هذه الموارد، فسيضطر إلى التضحية إما بسرعة إصدار البيانات أو بدقتها.

كما أن شو تشير إلى نقطة محورية تغيب عن النقاش الدائر.

فقد دأب العديد من الخبراء على اعتبار تدني معدلات المشاركة في استطلاع السكان الحالي (أساس حساب معدل البطالة) واستطلاع التوظيف الحالي (أرقام كشوف الرواتب) هما السبب الرئيس، إن لم يكن الوحيد، وراء تراجع جودة بيانات الوظائف في الولايات المتحدة.

وهذا الطرح ليس دقيقاً بالمرة، فالهاجس الأكبر مع انخفاض معدلات المشاركة هو احتمالية ظهور تحيزات عدم الاستجابة.

فحين تمتنع شريحة ديموغرافية معينة عن المشاركة، فإن ذلك يخلق تشوهاً في البيانات.

وعلى سبيل المثال، إذا كان الشباب أقل ميلاً للرد على المكالمات الهاتفية، فإن البيانات لن تكون ممثلة فعلياً لجميع الفئات ضمن سن العمل.

ورغم تراجع نسب المشاركة في الاستطلاعات في مختلف أنحاء العالم المتقدم، أثبتت العديد من الدراسات أن هذا الانخفاض لم يفض إلى انحيازات كبيرة حتى الآن.

وقد يرجع ذلك إلى أن العينات المستهدفة ما زالت تمثل المجتمع الإحصائي إلى حد كبير، أو لأن مكتب إحصاءات العمل وغيره من الجهات الحكومية يبذلون جهوداً فعالة في متابعة الاستجابات وإجراء تعديلات على نماذجهم الإحصائية.

وهو ما يعني أن البيانات لا تزال محتفظة بمصداقيتها ودقتها - حتى الوقت الراهن.

وبالتأكيد فإن التناقص المتزايد في أعداد المستجيبين للاستطلاعات يرفع سقف التحدي أمام المكتب لضمان موثوقية النتائج.

لذلك، سيكون من الضروري تخصيص مزيد من التمويل لتوظيف كوادر تتولى متابعة المستجيبين وضمان أن تعكس صورة التوظيف في البلاد بدقة وتفصيل ووضوح على المستويات كافة. وإلا فإن حجم المراجعات اللاحقة للبيانات سيزداد.

وكما قال برادي ويست، المتخصص في منهجيات المسوح بجامعة ميشيغن والمستشار السابق لدى مكتب إحصاءات العمل: «الهدف الأساسي من المراجعات هو تحسين التقديرات المستخلصة من الاستطلاعات».

وفي حال تولى أنتوني المنصب دون إيلاء الاهتمام اللازم لمعضلة الموارد، فإن جودة البيانات الاقتصادية الأمريكية ستنحدر بشكل حتمي.