الركود التضخمي يعود إلى واجهة الاقتصاد الأمريكي

إيدن ريتر

ظل الركود التضخمي مطروحاً كسيناريو محتمل بالولايات المتحدة لبعض الوقت، ومنذ لحظة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر الماضي، أدت وعود دونالد ترامب بفرض تعريفات جمركية إلى ترجيح العديد من المحللين لسيناريو يجمع بين تباطؤ النمو وارتفاع التضخم باعتباره النتيجة الأكثر ترجيحاً.

وقد تبنى مجلس الاحتياطي الفيدرالي هذا التصور على مدار العام، إذ ألمح ملخصا التوقعات الاقتصادية الصادران عنه، ولا سيما تقرير يونيو الماضي، إلى احتمال تحقق الركود التضخمي.

وتشير تقديرات متوسط توقعات أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة إلى وصول معدل التضخم الأساسي لنفقات الاستهلاك الشخصي إلى 3.1 %، ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 1.4 % بحلول نهاية عام 2025، وهو ما يمثل مراجعة بالرفع لمعدل التضخم وبالخفض لمعدل النمو مقارنة بتوقعات المجلس الصادرة في مارس وديسمبر الماضيين على التوالي.

ومن الواضح أن هناك انحساراً للمخاوف. ففي مايو الماضي، أدت مجموعة من المفاجآت الاقتصادية الإيجابية المتعاقبة بالكثير من القراء إلى توقع أن يشهد الاقتصاد نهاية عام وهو «في حال مثالية» أو أن يكون «مفرط النمو»، وليس في حالة ركود.

وقد عزز الأداء الاقتصادي المسجل هذا الصيف من هذه المعنويات الإيجابية، فقد سجل مؤشر «سيتي» الخاص بالمفاجآت الاقتصادية مستويات في المنطقة الموجبة في 52 % من الوقت منذ بداية يونيو الماضي، ما يشير إلى أن البيانات الاقتصادية كانت تتخطى توقعات السوق.

لكن رغم ذلك، بدأ شبح الركود التضخمي يعود للمشهد من جديد، فعلى صعيد النمو، أسفرت مجموعة من البيانات الاقتصادية الضعيفة عن قلق المستثمرين، وكانت القراءة التي سجلتها الوظائف في شهر يوليو سلبية للغاية.

كما أظهرت بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني مؤشرات تبعث على القلق، فقد تباطأ إنفاق المستهلكين في الربيع، مثلما كان حال العديد من أنواع الاستثمار. وكانت البيانات المستندة إلى استطلاعات، في تحسن مستمر، لكنها اتخذت الآن منحى نحو الأسوأ.

كذلك، انخفض مؤشر مديري المشتريات التصنيعي، الذي صدرت قراءته مطلع أغسطس، والخاص بشهر يوليو وظل في النطاق الانكماشي، أما مؤشر مديري المشتريات الخدمي، الذي صدرت قراءته نهاية الأسبوع الماضي.

فقد كان مثيراً للقلق، وتراجع المؤشر الإجمالي إلى مستويات تتخطى النطاق الانكماشي بقليل، فيما سجل مؤشر الأسعار أعلى مستوياته منذ 33 شهراً.

من جانبها، تعد الأوضاع التي تشي بها نتائج الأرباح أكثر غموضاً، لكنها غير مطمئنة، وفيما يتعلق بالتعريفات الجمركية، يتوجب علينا ألا نتوقع تحسن الأمور. ورغم إعلان التوصل إلى مجموعة من الاتفاقيات التجارية صيف هذا العام.

إلا أن متوسط التعريفات الجمركية الفعلية، البالغ 18.6 % في الوقت الراهن وفق مختبر الموازنة التابع لجامعة «ييل»، وصل إلى مستويات أعلى كثيراً مقارنة بما سجله قبل عام من الآن، كما أنه هو أعلى مما توقعه الكثير من المحللين.

وبموجب المستويات الحالية، يرجح مختبر الموازنة التابع لجامعة «ييل» أن تكبح التعريفات الجمركية نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4 % على المدى الطويل، وفي الوقت ذاته، تتزايد الضغوط على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، خصوصاً الهند.

وتبدو الأمور أكثر سوءاً فيما يتعلق بالتضخم، فقد أظهرت تقارير مؤشر أسعار المستهلكين ارتفاعاً هامشياً بأسعار التعريفات، خصوصاً فئات السلع كثيفة الاستيراد، مثل الأثاث والأجهزة المنزلية، لكن التضخم يعود بقوة حتى من دون احتساب هذه الزيادات.

فقد اشتملت بيانات شهر يونيو على ارتفاعات كبيرة لم يكن من الممكن إلقاء اللوم فيها على التعريفات الجمركية، بحسب ما جاء عن العديد من المحللين.

وهناك أسباب تدعو إلى الاعتقاد في أن تقرير مؤشر أسعار المستهلكين وتقارير التضخم للأشهر المتبقية من العام الجاري، ستظل مرتفعة، وبخلاف هذه الزيادة.

يبدو أن الشركات بدأت في استنزاف المخزونات التي راكمتها خلال الربع الأول باعتبارها وسيلة لاستباق التعريفات الجمركية. وقد أظهرت بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني، الصادرة خلال الشهر الماضي، تغيراً مقلقاً في المخزونات.

وقال ستيفن بليتز من «تي إس لومبارد»: «سنشهد انخفاضاً أكبر كثيراً في المخزونات في الربع الثالث.. وفي مرحلة ما، ستضطر الشركات إلى البدء في بيع مخزوناتها التي خضعت للتعريفات الجمركية، وليس من الواضح توقيت بدء هذا الأمر، سواء خلال الربع الجاري أم التالي.

فالأمر على كل شركة وحساباتها الخاصة. وتوقيت بداية هذا الاتجاه هو التوقيت الذي ستقلق فيه بشأن إبطاء التعريفات الجمركية حقاً للاقتصاد أو زيادتها للتضخم».

علاوة على ذلك، وبحسب ما أفاد به صامويل تومز من «بانثيون ماكرو إكونوميكس»، فالأسعار في بعض فئات السلع والخدمات التي أسهمت في استمرار انخفاض التضخم في وقت مبكر من العام الجاري تتجه للارتفاع، خصوصاً أسعار تذاكر الطيران.

وقال إن ارتفاع أسعار السلع الأساسية عوض انخفاضات حادة في أسعار الإقامة وتذاكر الطيران، بلغت في إجماليها 6 % و14 % على الترتيب بين شهري يناير ويونيو.

ويبدو أن الطلب على السفر الجوي قد تعافى على نحو قوي على مدى الشهرين الماضيين... ونتوقع ارتفاع تذاكر الطيران بنحو 1 %. ومن المستحيل الجزم بما ستنتهي إليه القراءات، لكن توقعات التضخم تعاود ارتفاعها من جديد.

ومن الممكن أن يشهد التضخم زيادة إضافية، إذا استمر تدهور سوق العمل واضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة، وقد ازدادت التوقعات بخفض المركزي للفائدة طفيفاً، إذ تتوقع الأسواق في الوقت الراهن خفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إما مرتين أو 3 مرات هذا العام، بارتفاع يتراوح بين خفض واحد وخفضين قبل صدور تقرير الوظائف الأخير.

وهناك أشباح أخرى من شأنها تعزيز سردية الركود التضخمي في الولايات المتحدة. فقد ظلت أسعار النفط مقيدة، إلا أن ترامب يراكم ضغوطه على فلاديمير بوتين بزيادة العقوبات على النفط الروسي. ويرى كيران تومبكينز من «كابيتال إكونوميكس»، أن أسواق النفط ستكون قادرة على التعاطي مع هذا الوضع، لكن بصعوبة.

وإذا استمرت الضغوط التي يمارسها ترامب، فستستنزف غالبية السعة الفائضة من النفط الخام. ويعتقد تومبكينز أن الأسعار ستشهد طفرة في حال وقوع أي تصعيد لأي من النزاعات المستعرة، خصوصاً في الشرق الأوسط.

الهجرة هي الأخرى حاضرة في هذا المشهد، فقد تباطأت معدلات الهجرة عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة إلى حد كبير، ومن دون القوى العاملة والمستهلكين الإضافيين، سيتأثر النمو الأمريكي على نحو سلبي، وقد تزداد ضغوط الأجور، ومن ثم سيرتفع التضخم.

ومع ذلك، وحسب ما تشير إليه ويندي إيدلبرغ من معهد «بروكينغز»، فإن التداعيات السلبية على النمو الاقتصادي ستكون أكثر جلاء مقارنة بالتأثيرات التي سيشهدها التضخم.

وسيعزى ذلك إلى أن الانخفاض الناجم عن الطلب الاستهلاكي في بعض المناطق سيؤدي إلى عمليات تسريح وتراجع بالأسعار، من الواضح، عموماً، أن الركود التضخمي يعود إلى واجهة المشهد.