لا يعرف شغف دونالد ترامب بعقد الصفقات حدوداً، فخلال أول 200 يوم من ولايته الثانية، ظل الرئيس الأمريكي منخرطاً في مفاوضات متواصلة، ملوحاً بفرض تعريفات جمركية -وأحياناً يفرضها بالفعل- على شركاء الولايات المتحدة التجاريين، في مسعى لانتزاع تنازلات كثيرة.
كما لجأ إلى سلاح الرسوم الجمركية القطاعية الباهظة لدفع الشركات المحلية والعالمية إلى ضخ استثمارات بمليارات الدولارات داخل الولايات المتحدة، غير أن نهجه القائم على مبدأ المقايضة اتخذ أخيراً منحى أكثر إثارة للقلق.
فقد كشفت «فايننشال تايمز»، منذ أيام، أن شركتي صناعة الرقائق الإلكترونية «إنفيديا» و«إيه إم دي» وافقتا على منح الحكومة الأمريكية 15 % من عائدات مبيعاتهما من الرقائق في السوق الصينية، مقابل الحصول على تراخيص لتصدير أشباه الموصلات. ويؤكد خبراء أن هذا الإجراء غير مسبوق، إذ لم يسبق لشركة أمريكية أن قبلت دفع جزء من إيراداتها مقابل الحصول على تراخيص تصدير.
ويُبرز هذا الاتفاق، المشكوك في قانونيته، أن الشركات الأمريكية باتت في عهد ترامب تخضع لمنطق جديد تُملى فيه القرارات التجارية ليس من قبل «اليد الخفية» للسوق، بل من خلال «القبضة الثقيلة» للبيت الأبيض.
وقد أدركت شركات عدة كبرى -حقاً- أن عليها بناء علاقات شخصية مع ترامب وتقديم «محفزات» مغرية له، أو البقاء بعيداً عن الأنظار، أملاً أن يتجاهلها الرئيس.
وفي حالة «إنفيديا»، كان ترامب يدرس في البداية حظر بيع شرائح «إتش 20» المصممة خصوصاً للسوق الصينية، غير أنه عدل عن القرار في يونيو بعد لقائه مع الرئيس التنفيذي للشركة، جنسن هوانغ، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى الاتفاق على الترتيب الضريبي المتعلق بالصادرات.
وخلال الأسبوع الماضي، كشف الرئيس التنفيذي لشركة «أبل» تيم كوك عن خطة استثمارية بقيمة 600 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى أربع سنوات، وقدم للرئيس الأمريكي درعاً زجاجية منقوشة ومثبتة على قاعدة ذهبية، ليعلن ترامب لاحقاً عن خطط لفرض رسوم جديدة على واردات الرقائق، لكنه استثنى «أبل» منها.
ويرى ترامب مطالبة الشركات بدفع مبالغ معينة مقابل الحصول على امتيازات أمراً عادلاً ومنطقياً، لأنه يضع عقد الصفقات في صميم أولوياته، وفرض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة التي يفضل أن تصنع داخل الولايات المتحدة خطوة مبررة، لأنها تدر أيضاً إيرادات جمركية إضافية.
وبالمثل، فإن بيع الرقائق للصين قد ينطوي على تداعيات أمنية، بل وقد يسهم في تعزيز قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أنه يظل في الوقت نفسه مصدراً للعائدات المالية، لكن هذا النهج القصير الأمد، القائم على الصفقات، في إدارة الاقتصاد الأمريكي، يغفل عن التأثيرات الأوسع التي تقيد القطاع الخاص وتكبح حيويته.
ويفتح اتفاق ترامب مع شركات صناعة الرقائق الباب أمام البيت الأبيض لإبرام صفقات مماثلة في قطاعات وسلع أخرى، وهي ديناميكية تهدد باستنزاف النشاط الاقتصادي راهناً، إذ باتت مجالس إدارات الشركات تتردد في اتخاذ قرارات التوظيف والاستثمار، بل وقد تسعى إلى تقليص مبيعاتها، تفادياً لاستعداء الرئيس.
كما يفاقم هذا الاتفاق من حالة عدم اليقين التي تخيم على مناخ الأعمال. وإذا كان بمقدور الرؤساء التنفيذيين الأذكياء ببساطة ممارسة الضغوط -وتقديم المقابل- لحمل ترامب على تغيير رأيه بشأن بعض القواعد والأنظمة، فإن التخطيط بعيد المدى يصبح أكثر صعوبة وتعقيداً.
ومن شأن بيئة الأعمال القائمة على «ادفع لتلعب» أن تعمق الفجوة القائمة أصلاً بين عمالقة الشركات الأمريكية وبين الشركات الصغيرة ذات القدرة المحدودة على شراء النفوذ والتأثير.
إن الكلفة واضحة لهذا النهج القائم على الصفقات التي يعقدها ترامب؛ استبدال اقتصاد تحكمه صفقات اعتباطية باقتصاد يستند إلى سيادة القانون. ونظام كهذا سينظر إليه على أنه يكافئ القلة النافذة، ويعاقب الصغار والمحرومين من العلاقات، وهو ما يقوض في نهاية المطاف الركائز المستقرة التي قام عليها ازدهار الولايات المتحدة لعقود طويلة.