سيمون موندي
في ذروة التفاؤل بالطاقة النووية خلال خمسينيات القرن الماضي، عبر لويس ستراوس، رئيس اللجنة الأمريكية للطاقة الذرية آنذاك، عن رؤية طموحة مفادها أن الكهرباء قد تصبح «رخيصة إلى حد لا يستحق حتى حساب الاستهلاك».
اليوم في سوق الطاقة الأوروبية، وبفضل الطفرة الكبيرة في الاستثمارات بمصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والشمس، تجاوز الواقع هذا التصور، إذ يجد المولدون أنفسهم في كثير من الأحيان مضطرين لدفع مقابل لضخ الكهرباء في الشبكات.
ويستحضر هذا المشهد ما حدث في أبريل 2020 في سوق النفط الأمريكي، حين هوت الأسعار إلى المنطقة السالبة للمرة الأولى في التاريخ، نتيجة انهيار الطلب وتكدس المخزونات وسط أسابيع الفوضى الاقتصادية التي فجرتها جائحة «كوفيد19».
حينها اضطرت الشركات إلى دفع مبالغ مالية لجهات أخرى كي تتسلم براميل النفط، التي التزمت بشرائها، قبل أن تعود الأسعار إلى المنطقة الموجبة، وفيما كانت هذه الحادثة حالة استثنائية، فقد أصبحت الأسعار السالبة في بعض أسواق الكهرباء ظاهرة متكررة وآخذة في الاتساع.
وتعكس هذه الظاهرة القوة المتنامية للاستثمارات في إنتاج الطاقة المتجددة، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات مقلقة حول مستقبل السوق. ويعلق بيتر وول، رئيس أبحاث الشبكات في «بلومبرغ إن إي إف»، قائلاً: «إن توزيع الكهرباء هو واحد من أكثر الابتكارات فائدة في التاريخ، ومع ذلك أصبح لدينا سوق بات يقرر في بعض الأحيان أن هذه الكهرباء بلا قيمة».
ورغم أن هذه الظاهرة موجودة بدرجات متفاوتة في بعض مناطق أمريكا والصين، فإنها تتجلى بشكل أكثر وضوحاً في أوروبا، حيث كانت الأسعار السالبة مشهداً نادراً، لكنها ومنذ 2023 أصبحت أكثر شيوعاً.
والمثال الأبرز هو إسبانيا، التي شهدت 404 ساعات من الأسعار السالبة للكهرباء، خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، وفق بيانات شركة الاستشارات «إينيرفيس»، وقد أخدت هذه الظاهرة تنتشر بشكل متزايد في معظم أرجاء القارة.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الأرقام تتعلق بأسعار سوق الجملة للكهرباء بالساعة، وليس بأسعار التجزئة التي يدفعها المستهلكون، والتي تعكس التكلفة الإجمالية لنظام إنتاج وتوزيع الطاقة، ففي أوقات مشمسة وعاصفة قد تمتلك محطات الطاقة المتجددة قدرة توليد تفوق ما يمكن للنظام استيعابه، وفي أوقات أخرى تكون قدرتها أقل بكثير. ولهذا لا يُتوقع أن تتحول فاتورة الكهرباء الشهرية للمستهلكين إلى أرقام سالبة في أي وقت قريب.
وإلى حد ما تعكس ظاهرة الأسعار السالبة نجاح برامج الدعم الأوروبية للطاقة النظيفة، التي حفزت الاستثمارات الضخمة في مصادر الطاقة المتجددة خلال السنوات الأخيرة، وقد ساهمت الأجواء المشمسة على نحو استثنائي منذ بداية هذا العام في تعزيز إنتاج الطاقة الشمسية.
وبموازاة ذلك تراجع الطلب على الكهرباء من الشبكة الأوروبية، نتيجة مزيج من عوامل تشمل تباطؤ النشاط الاقتصادي، وجهود تحسين كفاءة استهلاك الطاقة، خصوصاً بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى جانب توسع استخدام الألواح الشمسية على أسطح المنازل، في نشاط مدعوم بحوافز حكومية.
لكن يبقى السؤال: لماذا قد يدفع أي منتج لعملائه مقابل الحصول على سلعته؟ يرتبط الأمر جزئياً بالجانب التشغيلي، إذ إن العديد من محطات الطاقة الحرارية (وبعض مزارع الرياح) ليست مصممة للتشغيل والإيقاف المتكرر، ويفضل مشغلوها تحمل ساعات قليلة من الأسعار السالبة، بدلاً من تكاليف الإغلاق غير المخطط له.
كما تلعب الأنظمة الصارمة للدعم دوراً في ذلك، ففي بعض الدول الأوروبية، يحصل منتجو الطاقة المتجددة على دعم ثابت، يُعرف بالتعرفة التحفيزية، عن كل وحدة كهرباء يبيعونها. وبذلك إذا كان سعر السوق سالباً بمقدار 10 سنتات للوحدة، لكن المنتج يتلقى دعماً قدره 30 سنتاً للوحدة، فإن مواصلة البيع تظل مربحة بغض النظر عن الأسعار السالبة.
ويبرز هنا ما يعرف باسم «الحد من الإنتاج»، حيث يجبر منتجو الطاقة المتجددة على وقف التوليد عند الحاجة لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، مع حصولهم غالباً على تعويض عن الإيرادات المفقودة، ففي شمال اسكتلندا، حصلت مزارع الرياح على مدفوعات قدرها 119 مليون جنيه استرليني مقابل عدم إنتاج 37 % من قدرتها المتوقعة خلال النصف الأول من هذا العام.
وقد تبدو هذه الديناميكيات متناقضة للوهلة الأولى، وقد تشكل تحديات حقيقية أمام مسار تحول الطاقة، إذ إن ارتفاع مبالغ التعويضات عن الحد من الإنتاج قد يؤدي إلى زيادة تكاليف الطاقة وإضعاف الدعم الشعبي للاستثمار الأخضر. في الوقت ذاته تضغط ظاهرة الأسعار السالبة على العوائد المتوقعة لمشروعات الطاقة المتجددة.
وهو ما دفع مطورين ومستثمرين إلى التعبير عن قلق متزايد خلال العام الماضي من التأثيرات المالية المحتملة، وفق ما يؤكده ريشاب شريستا، كبير المحللين في «وود ماكنزي» لاستشارات أسواق الكهرباء الأوروبية.
ورغم ذلك قد يتضح أن فائض القدرة الإنتاجية الحالي نعمة إذا نما الطلب بقوة في السنوات المقبلة، وهو أمر مرجح في ظل التوسع المتوقع في استخدام السيارات الكهربائية ومراكز البيانات كثيفة الاستهلاك للطاقة لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ولذلك تتوقع ريبيكا ماكمانوس، رئيسة قطاع الطاقة المتجددة الأوروبية في «أورورا إنيرجي ريسيرتش»، أن تختفي الأسعار السالبة من السوق بحلول 2035، لكنها تؤكد أن نمو الطلب وحده لن يكون كافياً لتحقيق الاستقرار، وأن على صانعي السياسات لعب دور محوري في المرحلة المقبلة.
وتعتبر معالجة فجوات الاستثمار في البنية التحتية للشبكات الكهربائية أولوية قصوى، إذ إن إنشاء خطوط نقل طويلة المدى، مثل الربط بين مزارع الرياح البحرية في اسكتلندا ومراكز الطلب الكبرى في الجنوب، يمكن أن يقلص بشكل كبير من هدر الطاقة الخضراء منخفضة التكلفة.
وقد شكل ذلك جزءاً رئيسياً من نجاح الصين في تقليص مستويات الحد من الإنتاج قبل عقد من الزمن، رغم عودة المشكلة للظهور خلال العامين الماضيين مع عجز شبكتها عن مواكبة نمو الإنتاج.
وفي الوقت نفسه يشهد الاستثمار في تخزين الطاقة على مستوى الشبكة زخماً متزايداً مع وضوح الحاجة الملحة له، لكن هذا التوجه يمكن تعزيزه من خلال حوافز مدروسة، مثل تلك التي أوصت بها لجنة العلوم والتكنولوجيا في مجلس اللوردات البريطاني، والتي يمكن تمويلها جزئياً عبر إصلاح ذكي لبرامج دعم منتجي الطاقة، لإزالة الحوافز المشوهة التي تغذي ظاهرة الأسعار السالبة.
كما يشير ريشاب شريستا إلى أن معظم السياسات، حتى الآن ركزت بشكل مفرط على جانب العرض، في حين أن هناك الكثير مما يمكن فعله على جانب الطلب، مثل تطبيق أنظمة تسعير ديناميكية تشجع المستهلكين على زيادة استهلاك الكهرباء في أوقات وفرة الإمدادات وخفضه عند شحها.
لقد نجح صانعو السياسات الأوروبيون في تحفيز الاستثمار في إنتاج الكهرباء المتجددة، لكن الوقت حان لتوسيع تركيزهم ليشمل بقية عناصر معادلة الطاقة منخفضة الكربون.