جدل حول العرض والطلب في سوق التوظيف الأمريكي

روبرت آرمسترونغ - هاكيونغ كيم - آيدن رايتر
تصاعدت المطالب الموجهة إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لخفض معدلات الفائدة، عقب النتائج المخيبة التي كشف عنها تقرير الوظائف لشهر يوليو.

وتستند هذه المطالب إلى فرضية منطقية مفادها أن تراجع وتيرة التوظيف يعكس ضعفاً في الطلب على العمالة، وبالتالي فإن تحفيز الاقتصاد سيؤدي – بالضرورة – إلى تنشيط سوق العمل.

وقد تكون المعضلة أكثر تعقيداً إذا كان الخلل في جانب العرض لا الطلب.

وفي هذا السياق، يشير دافال جوشي من «بي سي إيه للأبحاث» إلى أن حجم القوى العاملة المتاحة في الولايات المتحدة يقل بملايين عن إجمالي الطلب على العمالة، الذي يشمل الوظائف القائمة والشواغر المعلنة والعمال المسرحين مؤقتاً.

وبحسب جوشي، فإن تباطؤ خلق الوظائف يعود أساساً إلى شح العمالة، لا إلى ضعف الطلب.

ومن ثم، فإن خفض الفائدة في الوقت الراهن قد يزيد الطلب على العمالة دون أن ينعكس ذلك في زيادة فرص العمل الفعلية، بل وقد يفاقم الفجوة بين الطلب المتنامي والعرض المحدود، وهو أمر من شأنه إعادة إشعال التضخم، وسيكون خطأً استراتيجياً في السياسة النقدية.

ولفت باراج تاتي من «دويتشه بنك» إلى أن إجمالي ساعات العمل - محسوباً بضرب عدد العاملين في متوسط ساعات الأسبوع - يواصل نموه بوتيرة ثابتة منذ فترة، وليس في حالة تباطؤ أو انكماش كما كان متوقعاً لو كان الطلب يعاني بالفعل من ضعف مفاجئ.

كما يرى مات كلاين من منصة «ذا أوفارشوت» أن انخفاض صافي الهجرة تحت إدارة ترامب تسبب في ما وصفه بـ«صدمة عرض» في سوق العمل، مشيراً إلى أن تراجع وتيرة خلق الوظائف يعكس بدرجة كبيرة انخفاض تدفقات المهاجرين.

وبالنسبة لميشيل بومان، العضو في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وأحد العضوين اللذين صوتا لصالح خفض الفائدة خلال الاجتماع الأخير للجنة السوق المفتوحة، فهي تتبنى وجهة نظر مغايرة، مستشهدة بانخفاض نسبة التوظيف إلى إجمالي السكان إلى 59.6% مقارنة بـ60.4% في نوفمبر 2023.

ويؤيد «ريان وانغ» الخبير الاقتصادي في «إتش إس بي سي» هذا التوجه، مؤكداً أن «الاتجاه الهبوطي يعكس تباطؤاً في الطلب على العمالة».

ومن المؤكد أن التراجع قد يشمل جانبي الطلب والعرض معاً، لكن بدرجات متفاوتة، ما يستدعي تحديد العامل الأكثر تأثيراً.

ونحن من جانبنا نرجح فرضية تراجع العرض، نظراً لضعف المؤشرات على انخفاض الطلب خارج بيانات التوظيف مع التأكيد أن مستوى الثقة بهذا الاستنتاج ليس قوياً.

وبالانتقال إلى ظاهرة تباطؤ النمو الأساسي لأرباح كبرى الشركات الأمريكية، يبرز التساؤل: ما الذي يقف وراء هذا التراجع؟ هل هو ضعف الطلب؟ أم ارتفاع التكاليف؟ أم الرسوم الجمركية؟ أم عوامل خارجية لم تؤخذ بعين الاعتبار؟

لعل من أهم الأدلة التي تدحض فرضية ضعف الطلب النهائي هو استمرار نمو المبيعات بوتيرة مستقرة.

لكن هذه المعطيات ليست حاسمة، فالأرقام تعكس قيمة المبيعات الاسمية، أما نمو المبيعات الحقيقي، والذي يقل عن 5%، فلا يمكن اعتباره قوياً.

وما يزيد الأمر تعقيداً أن اتجاه التباطؤ يتوزع بشكل غير متكافئ بين القطاعات المختلفة، وهو ما تظهره نتائج الأرباح للربع الثاني، فقطاع التكنولوجيا يشهد ازدهاراً حتى من دون الشركات السبع الكبرى، فقد ساهمت شركات مثل «ميكرون» و«آي بي إم» و«أمفينول» و«لام» بأرباح قوية.

في المقابل، تظهر قطاعات المواد الأولية والصناعات والمرافق العامة علامات ركود، بينما يبدو قطاع السلع الاستهلاكية الكمالية في وضع سيئ للغاية.

والأسلوب الأكثر فاعلية لفهم هذه الديناميكيات هو الإصغاء إلى تصريحات الشركات نفسها.

ولنبدأ بأضعف القطاعات، السلع الاستهلاكية الكمالية، حيث تراجعت الأرباح التشغيلية للشركات الأربعين المدرجة ضمن مؤشر «إس آند بي 500» التي أعلنت نتائجها للربع الثاني بنحو 4.3 مليارات دولار مقارنة بعام 2024.

ويمكن تصنيف الشركات الأكثر تأثيراً في هذا التراجع ضمن ثلاث فئات رئيسية: • الأولى شركات صناعة السيارات: ويرتبط هذا التراجع في الغالب بالرسوم الجمركية، فبينما ارتفعت مبيعات جنرال موتورز من السيارات، فقد عانت الشركة من انخفاض أرباحها في الربع الثاني بمقدار 1.8 مليار دولار مقارنة بالعام الماضي، ويعزى 1.1 مليار دولار من هذا التراجع إلى الرسوم. كما تراجعت أرباح فورد بمقدار 1.4 مليار دولار، منها 800 مليون بسبب الرسوم الجمركية.

• الثانية شركات استهلاكية كبرى في مرحلة إعادة هيكلة: تمر كل من «نايكي» و«ستاربكس» بمرحلة إعادة هيكلة شاملة عقب أخطاء استراتيجية جسيمة، حيث أفرطت «نايكي» في الاعتماد على نموذج البيع المباشر، بينما وقعت «ستاربكس» في فخ التوسع المفرط في العمليات وقائمة المنتجات.

وقد انخفضت الأرباح التشغيلية المجمعة للشركتين بنحو 1.8 مليار دولار خلال الربع المذكور.

• الثالثة شركات بناء المنازل: تعكس هذه الفئة قصة ضعف الطلب، لكنها محصورة في هذا القطاع تحديداً. فأسعار الفائدة على الرهن العقاري لا تزال مرتفعة، وتميل شركات البناء إلى حماية هوامش الأرباح والعائد على رأس المال بدلاً من خفض الأسعار. والنتيجة: ضعف في الطلب.

وقد صرح بول رومانوسكي، الرئيس التنفيذي لشركة «دي إتش هورتون»، بأن «الطلب على المنازل الجديدة لا يزال متأثراً بالمعوقات المستمرة للقدرة الشرائية وبحذر المستهلكين». . ورغم كل هذه المؤشرات، فإن الصورة لا توحي عموماً بوجود تراجع واسع في الطلب داخل الاقتصاد الأمريكي ككل.