بين الاستدامة والواجبات الائتمانية.. هل يختل ميزان الاستثمار؟

أندرياس أوترمان
يشهد القطاع المالي تصاعداً لوتيرة ردود الفعل المناهضة للاستدامة، حيث بدأت البنوك الكبرى وشركات إدارة الأصول بالتراجع عن تعهداتها السابقة، لا سيما في ما يتعلق باستراتيجيات إزالة الكربون ومبادرات التنوع والإنصاف والشمول. 

ونتيجة لذلك، تشهد جمعيات مهنية، مثل مبادرة «مديرو الأصول من أجل صافي الانبعاثات الصفري»، موجة انسحابات متتالية تقودها المؤسسات المالية الأمريكية على وجه الخصوص.

وعلى مدى عقود، اعتادت صناعة الاستثمار التعامل مع عملاء يرغبون في استبعاد أوراق مالية محددة من نطاق الاستثمارات المتاحة.

وتنوعت هذه الطلبات بين صناديق التقاعد التابعة للشركات، التي تطلب استبعاد أسهم شركتها من المحافظ الاستثمارية، وعملاء يسعون لتجنب ما يعرف بـ «القطاعات المحرمة».

وكانت هذه الطلبات تخضع لتقييم مزدوج: من الناحية الاقتصادية، لبحث جدواها: هل ستحقق عوائد تبرر تكلفة تخصيصها؟ ومن منظور أثرها على أداء المحفظة: هل ستظل الاستثمارات المتبقية قادرة على تحقيق عوائد مجزية؟

بيد أن المشهد تغير جذرياً خلال السنوات الأخيرة، حيث مارس أصحاب المصلحة ضغوطاً كبيرة على مؤسسات الاستثمار لضخ رؤوس الأموال في الأنشطة المستدامة والمسؤولة.

وتدخل المشرعون بفرض متطلبات إفصاح صارمة، أملاً في إحداث تحول جذري في سلوكيات الاستثمار تعزز الشفافية بدرجة غير مسبوقة.

وبالنسبة للمنتجات الاستثمارية الطامحة لإلزام نفسها بأعلى معايير الاستدامة، بات ضرورياً استبعاد القطاعات ذات البصمة البيئية الثقيلة ومصنعي الأسلحة المثيرة للجدل.

إضافة إلى ذلك، يتجه عدد متزايد من المستثمرين طواعية لاستبعاد الأسلحة التقليدية انطلاقاً من قناعات وقيم أخلاقية.

غير أن المطلقات الأخلاقية التي تقوم عليها هذه الأطر الاستثمارية القائمة على الاستبعاد، سرعان ما تبدلت، خصوصاً بعد تغير المواقف تجاه الغاز الطبيعي وشركات الصناعات الدفاعية عقب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

وإلى جانب التحديات الواضحة المرتبطة بضرورة تعديل الأطر الاستثمارية باستمرار لمواكبة تحولات المعايير الاجتماعية والاكتشافات العلمية، فإن محاولات الجهات التنظيمية لتوجيه رؤوس الأموال نحو قطاعات وشركات «مستدامة» تعاني من ثلاث ثغرات جوهرية إضافية.

الأولى، مطالبة شركات الاستثمار بترجيح استثمارات معينة على حساب أخرى قد يتعارض مع مسؤوليتها الائتمانية في تحقيق أفضل عوائد معدلة حسب المخاطر خلال أفق الاستثمار المحدد (الذي يمتد عادة من ثلاث إلى خمس سنوات قبل مراجعته).

وطبيعي أن يؤدي حصر نطاق الاستثمار المتاح في تقليص نطاق وفرص التنويع.

كما أن استبعاد أوراق مالية وقطاعات معينة عندما تكون مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، يعني التخلي عن مصادر محتملة للعائدات.

الثانية، من زاوية اجتماعية واقتصادية، تبلغ شركات الاستثمار ذروة فعاليتها حين تتخذ قراراتها بناءً على العناصر الأساسية لفرص الاستثمار، فتوجيه رؤوس الأموال قسراً نحو قطاعات لا تستند إلى أساسيات قوية، يعرض هذه القطاعات لخطر التقييم المبالغ فيه، ومن ثم الأداء الضعيف لاحقاً، ما يفضي إلى هدر رأس المال.

لذلك، يتعين على المشرعين تركيز جهودهم على صياغة سياسات ضريبية وتنظيمية تعالج التأثيرات الخارجية، بما يضمن اتخاذ قرارات توزيع رأس المال على مستوى الشركات نفسها.

وبهذا، يتم إفساح المجال أمام القطاع المالي للقيام بالدور الذي يجيده، وهو اختيار الفرص الاستثمارية الواعدة عبر مختلف القطاعات وتوجيه رؤوس الأموال نحوها.

وأخيراً، يرى كثيرون أنه ليس من مهام شركات الاستثمار أن تتولى «تثقيف» العملاء فيما يخص القيم الأخلاقية، فلكل عميل وجهة نظره، وغالباً ما ينظر إلى هذا النوع من الحوار، إذا لم يصدر عن العميل نفسه، على أنه ينطوي على نوع من الترفع أو الوصاية.

كذلك، تتبنى المجتمعات غير الغربية في كثير من الأحيان ممارسات تجارية تعتبرها مقبولة ومستدامة، رغم أنها قد لا ترقى لمعايير الاتحاد الأوروبي الحالية.

وحرمان هذه الاقتصادات من رؤوس الأموال يبدو، في نظر كثيرين، موقفاً معيباً ومشوباً بالنفاق.

وفي حين أنه لا ينبغي لشركات الاستثمار فرض آرائها على العملاء، إلا أنه يمكنها أن تجعل من الاستثمارات المستدامة خياراً جاذباً إذا لم تؤثر اعتبارات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية سلباً على الأداء المتوقع على المدى المتوسط.

وتتحقق هذه المعادلة المثالية في مناخ تنصب فيه جهود شركات الاستثمار على الوفاء بالتزاماتها الائتمانية بتعظيم نسبة العائد إلى المخاطر ضمن أوسع أفق استثماري ممكن، في حين ينصرف صناع السياسات إلى فرض الضرائب المناسبة على الآثار الخارجية، ووضع أطر تنظيمية تتماشى مع ذلك على مستوى الصناعة.