هل تقرير الوظائف الأمريكي الأخير يدعو للقلق حقاً؟

روبرت أرمسترونغ – هاكيونغ كيم
هل ينبغي أن تعير الأسواق اهتماماً لإقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فصل رئيسة مكتب إحصاءات العمل، إريكا ماكنتارفر؟ لعل الإقالة كانت لتبدو أقل خطورة لو اكتفى الرئيس باتهام السيدة ماكنتارفير بعدم الكفاءة، إلا أنه بدلاً من ذلك اتهمها بالتلاعب في أرقام الوظائف لدوافع سياسية، من دون تقديم أي دليل، أو حتى الإشارة إلى نيته تقديم دليل لاحقاً.

وقد حاول أحد مسؤولي البيت الأبيض، في ادعاء ركيك، الإشارة إلى أن التعديلات نفسها تشكل دليلاً على وجود تزوير.

الأسوأ من ذلك أن هذا الاتهام يفتقر إلى أي منطق؛ فقد أشار كثيرون إلى أن نمط التعديلات في بيانات الوظائف لا يظهر أي انحياز لصالح الديمقراطيين على حساب الجمهوريين.

وهكذا أقال الرئيس موظفة عامة مسؤولة عن واحدة من أهم البيانات الاقتصادية، مدفوعاً إما بنزعة انتقامية وإما بشعور بالتهديد، فهل ستأبه الأسواق لذلك؟ على الأرجح لا، على الأقل في الوقت الراهن، نظراً لميلها إلى تجاهل أكثر سلوكيات الرئيس تقلباً، لكن على المدى البعيد فإن هذا النوع من الوقائع يشكل تهديداً أكبر للتقييمات المرتفعة للأصول الأمريكية المحفوفة بالمخاطر، مقارنة مثلاً برسوم ترامب الجمركية، والرسوم في نهاية المطاف ليست سوى مثال على سياسة ضريبية شديدة الغباء، وقد اعتادت الرأسمالية الأمريكية منذ زمن طويل على التكيف مع هذا النوع من السياسات.

وحتى يوم الخميس الماضي فقط اعتبرنا أن «خفض معدلات الفائدة سيكون قراراً سيئاً في الوقت الراهن»، وكنا من الداعمين منذ وقت طويل لقرار الفيدرالي بالإبقاء على المعدلات بين 4.25 و4.5 %، لكن بعد صدور تقرير وظائف سيئ يوم الجمعة تغير المشهد، وبدأت مواقف المعارضين داخل لجنة السوق المفتوحة تبدو أكثر بعداً في النظر وأقل تسييساً.

ومع مرور بضعة أيام للتفكير اتضح أن تقرير الوظائف لم يكن بذلك السوء الذي بدا عليه في البداية، فكثيرون توقفوا عند البيانات، التي تُظهر صورة قاتمة، لا بسبب ضعف خلق الوظائف في يوليو، بل بسبب التعديلات النزولية، التي ألغت 258 ألف وظيفة من القراءات الأولية لشهري مايو ويونيو، ما يعني أن عدد الوظائف الجديدة في تلك الفترة كان ضئيلاً جداً.

والأهم من ذلك فإنه نظراً لتقلص حجم القوة العاملة، والذي يجعل عدد الوظائف المطلوب لبلوغ نقطة التوازن أقل، فقد ارتفع معدل البطالة من 4.1 إلى 4.2 %، وكاد أن يسجل عند 4.3 % لولا بضع نقاط أساس.

وخلال الأشهر الستة الماضية، أي منذ تنصيب ترامب تقريباً، أضاف الاقتصاد الأمريكي نحو نصف مليون وظيفة جديدة فقط، وهو ما يعادل نصف عدد الوظائف، التي جرى خلقها خلال الأشهر الستة السابقة لذلك، لكن 40 % من هذا التراجع يُعزى إلى انخفاض التوظيف في القطاع الحكومي، وهذا أكيد، فقد تراجع التوظيف في القطاع الخاص بدرجة كبيرة (وكان شهر يونيو سيئاً للغاية على هذا الصعيد)، وغياب التباطؤ في التوظيف الحكومي كان سيجعل مناقشة تقرير الوظائف هذا أقل دراماتيكية بكثير.

وهذا يفتح الباب أمام احتمال عبثي ومأساوي في آن معاً: أن يكون الرئيس قد أقال رئيسة مكتب إحصاءات العمل، ليجعل منها كبش فداء لنجاح إحدى أبرز مبادراته، تقليص عدد العاملين في القطاع العام، لكن بعيداً عن هذه المفارقة المؤسفة تبقى القصة الأهم في أرقام التوظيف ليست تراجع التوظيف الحكومي، بل إن القطاعات الدورية في الاقتصاد، أي تلك التي تتحرك صعوداً وهبوطاً بحسب الدورة الاقتصادية، قد توقفت تقريباً عن إضافة وظائف جديدة، وهو اتجاه بدأ منذ مطلع العام، وهذا أمر مقلق بالتأكيد.

وبعد تدقيق النظر في القطاعات، وتوسيع زاوية الرؤية بالنظر إلى معدل التوظيف الإجمالي، يمكن للمرء أن يشعر ببعض الاطمئنان حين يرى أن معدل البطالة لا يزال عند مستويات تاريخية متدنية، وهي المستويات نفسها، التي تم تسجيلها في فترات الازدهار الكبرى أواخر التسعينيات ومنتصف العقد الأول من الألفية.

وفي المقابل قد يكون من المقلق أن اتجاه الحركة سلبي، خصوصاً أن معدل البطالة حين يبدأ بالارتفاع بسرعة، غالباً ما يستمر في هذا الاتجاه (كما شهدنا في عامي 2000 و2008)، فكيف إذن يمكن الحكم على هذا الوضع؟

السؤال المحوري هنا، والذي بات مألوفاً للقراء: هل نحن بصدد تباطؤ دوري في الاقتصاد؟ أم مجرد عودة إلى الوضع الطبيعي بعد الطفرة الاستثنائية، التي أعقبت الجائحة؟

إذا كان الأول فإن اتجاه البطالة يجب أن يثير قلقنا، لأنه يشير إلى تزايد احتمالات الركود، أما إذا كان الثاني فيمكن أن نركز على مستوى البطالة بحد ذاته، ونشعر بالارتياح.

ويذكرنا دون ريسميلر، من شركة «ستراتيجاس»، بأن الاقتصاد الأمريكي نادراً ما يدخل في ركود ما لم تكن أرباح الشركات في حالة تراجع.

وبحسب بيانات «فاكتسِت» فإن أرباح شركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 زادت بنسبة 10 % (بعد إعلان ثلثي الشركات المدرجة عن نتائجها).

وهذا من شأنه أن يدفعنا إلى تبني التفسير المتفائل المرتبط بـ«مستوى» البطالة، بدلاً من التفسير القاتم المرتبط بـ«معدل التغير» فيها، مع الإقرار بأن هذا النمو العام يخفي مشاكل داخلية، فشركات التكنولوجيا (في ظل هوس الذكاء الاصطناعي) والمؤسسات المالية (بدعم من معدلات الفائدة المرتفعة، وصعود أسعار الأصول، وزيادة التقلبات) تحقق نمواً سريعاً في الأرباح، بينما تسجل الشركات في قطاعات أخرى، من السلع الاستهلاكية الأساسية إلى المواد الخام، تباطؤاً واضحاً في نمو أرباحها.

وقد يكون هذا الانقسام هو النظير المالي لما نراه حالياً من ضعف في نمو الوظائف داخل القطاعات الدورية، فهل يصح بعدها القول إن الاقتصاد المؤسسي الأمريكي يزدهر بالفعل؟