كيف يمكن تقويض استقلالية «الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي» ؟

كريس جايلز

انتهج مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، منذ فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية أواخر العام الماضي، استراتيجية متوازنة، قوامها التركيز على مهامهم الأساسية، مع تقديم بعض التنازلات في المجالات الهامشية، التي لا تؤثر على جوهر عمل البنك المركزي.

وقام الاحتياطي الفيدرالي بحذف صفحات، تتعلق بسياسات التنوع والمساواة والشمول من موقعه الإلكتروني، وبرر جيروم باول الخطوة بأنها تأتي تماشياً مع الأوامر التنفيذية للرئيس الجديد، كما أعلن البنك انسحابه من شبكة البنوك المركزية الدولية للاستدامة، وامتنع عن إبداء موقف بشأن سياسات ترامب الجمركية.

كما أعلن مايكل بار، نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي للإشراف المصرفي، عزمه التنحي، ليفسح المجال للرئيس ترامب لتعيين شخص من اختياره، وقد أوضح بار منذ أيام أن قراره نابع من رغبته في تجنب أن يكون «مصدر تشتيت»، وأن «يضع الاحتياطي الفيدرالي في دائرة الاستهداف السياسي».

ويبدو باول حازماً في الدفاع عن استقلالية المؤسسة في القضايا الجوهرية، مؤكداً أن الدستور والقانون لا يمنحان الرئيس سلطة إقالته أو إقالة أي من أعضاء مجلس المحافظين، وشدد على أن استقلالية البنك المركزي ليست مجرد مسألة إجرائية، بل ضمانة أساسية لاستقرار ونمو الاقتصاد الأمريكي.

وحتى الآن اقتصر تدخل ترامب على دعوات عامة لخفض أسعار الفائدة، دون محاولة للتأثير المباشر على قرارات السياسة النقدية، فيما أعرب إيلون ماسك، المقرب من الرئيس، عن رغبته في إجراء عملية مراجعة وتدقيق على الاحتياطي الفيدرالي، دون توضيح المزيد من التفاصيل، لذا في ظل هذه التطورات يخيم جو من الحذر وعدم اليقين.

وتعد استراتيجية استبدال القيادات المستقلة بأشخاص موالين أسلوباً مفضلاً للحكام، الذين يرغبون في السيطرة على البنوك المركزية، لكن وفقاً للرؤية التقليدية للنظام الأمريكي يُفترض أن تكون هذه الاستراتيجية صعبة التنفيذ بالنسبة للرئيس الأمريكي نظراً للضمانات القانونية والدستورية. وبالنظر إلى فترات عمل أعضاء مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي فإن مقعدين فقط سيصبحان شاغرين خلال فترة ولاية ترامب الحالية - مقعد أدريانا كوجلر، ومقعد جيروم باول.

وبموجب قانون الاحتياطي الفيدرالي لا يمكن إقالة المحافظين من قبل الرئيس إلا لسبب وجيه أو قوي، وهو شرط قانوني يعني ضرورة إثبات ارتكاب المسؤول لمخالفة خطيرة أو سوء سلوك جسيم أثناء تأدية مهامه.

وفي الثاني عشر من فبراير أرسلت سارة هاريس، التي تشغل منصب المدعي العام بالإنابة، رسالة رسمية إلى السيناتور ريتشارد دوربن، أوضحت فيها أن وزارة العدل لم تعد تؤمن بدستورية شرط «السبب الوجيه»، التي تحمي استقلالية رؤساء الهيئات المستقلة، وأن «الوزارة لن تدافع بعد الآن عن دستوريتها» أمام المحاكم.

وبينما أشارت هاريس في هذا السياق صراحة إلى لجنة التجارة الفيدرالية والمجلس الوطني لعلاقات العمل ولجنة سلامة المنتجات الاستهلاكية فإن صياغة ما قالته كانت واسعة بشكل مقلق، حيث شملت «مجموعة متنوعة من الوكالات المستقلة»، التي تتمتع «بسلطة تنفيذية كبيرة».

وهناك قضايا منظورة بالفعل أمام المحكمة العليا تتعلق بهذا الجدل القانوني، أبرزها إقالة هامبتون ديلينجر، رئيس مكتب المستشار الخاص، والتي تم تأجيل البت فيها، أما بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي فالقضية الأهم هي إقالة ترامب لغوين ويلكوكس من المجلس الوطني لعلاقات العمل، والتي رفعت دعوى قضائية ضد الحكومة بسبب القرار، وسبق للمحكمة العليا الأمريكية أن أصدرت قراراً بإلغاء الحماية القانونية المستندة إلى «السبب الوجيه» بالنسبة للوكالات الفيدرالية، التي يرأسها شخص واحد.

ويرى الخبراء القانونيون أن هناك احتمالاً قوياً لتوفر أغلبية قضائية في المحكمة العليا لإلغاء الحماية الدستورية للمجالس الإدارية متعددة الأعضاء في الوكالات الفيدرالية المستقلة، مما قد يمنح ترامب سلطة غير مسبوقة لعزل أعضاء مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي.

وفي دراسة قانونية موسعة عن الوضع القانوني للاحتياطي الفيدرالي كتب البروفيسور دانيال تارولو، أستاذ القانون بجامعة هارفارد وعضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق، عام 2024 أن إلغاء الحماية القانونية ضد الإقالة سيضع مجلس المحافظين ضمن قائمة طويلة من الوكالات المهددة بطعون دستورية متزايدة.

ولا يزال الغموض يحيط بمدى قدرة ترامب على تحقيق هذا الهدف قانونياً، وحتى إن نجح، فإن مسألة إقالة أعضاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي تظل غير مؤكدة، لكن من الواضح أن حملة التغييرات في التعيينات الحكومية قد بدأت بالفعل في وكالات فيدرالية أخرى.

تتمثل نقطة الضعف الثانية في البنية الدستورية للاحتياطي الفيدرالي في الوضع القانوني لرؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية، الذين يشاركون في عضوية اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة.

وأكد البروفيسور تارولو في تحليله القانوني أن اعتبار هؤلاء الرؤساء متوافقين مع الدستور يتطلب تصنيفهم كـ«موظفين ثانويين»، نظراً لعدم خضوعهم لآلية التعيين الدستورية، التي تستلزم ترشيح الرئيس وموافقة مجلس الشيوخ.

وقد أيد مكتب المستشار القانوني هذا الرأي عام 2019، رغم إشارة تارولو إلى أن التوصل لهذا التفسير لم يكن سهلاً.

المعضلة هنا أن سلطة المشاركة في تحديد أسعار الفائدة للاقتصاد الأكبر في العالم تتجاوز بكثير الصلاحيات المعتادة «للموظفين الثانويين» في النظام الفيدرالي، والسيناريو الأكثر إثارة للقلق هو الذي يصوت فيه رؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية ضد الأغلبية داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فقد يؤدي ذلك إلى تجاوز الحدود الدستورية لدورهم كمسؤولين ثانويين.

ونظرياً يمتلك مجلس المحافظين آليات استثنائية للتغلب على مثل هذا الموقف، مثل إقالة رؤساء البنوك الإقليمية أو عقد اجتماعات خاصة لتمرير القرارات، لكن كما أشار تارولو، فإن اللجوء إلى مثل هذه الخطوة سيكون «طريقة غير مثالية لإدارة البنك المركزي»، ورغم أن هذه الثغرة الدستورية لم تتحول بعد إلى أزمة عملية إلا أن المشهد السياسي والقانوني المتغير قد يجعلها محوراً للصراع في المستقبل.

كذلك يواجه الاحتياطي الفيدرالي تهديداً غير مسبوق، يتمثل في احتمال قيام الرئيس ترامب بالطعن في الأساس الدستوري لاستقلاليته - وهو التفويض الممنوح له من قبل الكونغرس للعمل كمؤسسة مستقلة عن السلطة التنفيذية في إدارة السياسة النقدية.

وأكد الاحتياطي الفيدرالي على موقعه الرسمي أن مجلس المحافظين «يوجه عمليات نظام الاحتياطي الفيدرالي لتحقيق الأهداف والوفاء بالمسؤوليات الممنوحة له بموجب قانون الاحتياطي الفيدرالي»، وأنه «وكالة تابعة للحكومة الفيدرالية تقدم تقاريرها، وتخضع للمساءلة المباشرة أمام الكونغرس، لكن هذا الأساس القانوني بات مهدداً بشكل مباشر بعد إصدار الرئيس ترامب أمرين تنفيذيين مؤخراً، يهدفان إلى إعادة تعريف العلاقة بين السلطة التنفيذية والوكالات المستقلة.

ونص الأمر الأول بوضوح على أن «المسؤولين الذين يمارسون سلطات تنفيذية واسعة يجب أن يخضعوا لإشراف ورقابة الرئيس المنتخب من قبل الشعب»، ورغم أن الأمر التنفيذي استهدف السلطات التنظيمية للاحتياطي الفيدرالي مع استثناء مؤقت للسياسة النقدية فإن التحليل القانوني يشير إلى أن هذا الاستثناء قد لا يصمد في حال نجا الأمر التنفيذي من الطعون القضائية المتوقعة.

وتعود جذور هذه المعركة القانونية إلى مفهوم دستوري أساسي يتعلق بمدى صلاحية الكونغرس في تفويض سلطاته.

ووفقاً لسابقة قانونية مستقرة منذ 90 عاماً يحق للكونغرس تفويض بعض صلاحياته للوكالات المستقلة شريطة تحديد «مبدأ مفهوم» واضح يوجه عمل هذه الوكالات، لكن الأمر التنفيذي الثاني، الذي وقعه ترامب منذ أيام يمثل هجوماً مباشراً على هذا المبدأ الدستوري، حيث يستهدف إلغاء «اللوائح المستندة إلى تفويضات غير قانونية للسلطة التشريعية».

وأشار البروفيسور دانيال تارولو إلى أن «التفويض المزدوج» للبنك المركزي قد يكون عرضة للطعن القانوني في ضوء هذه التطورات، فالتفويض المزدوج المتمثل في تحقيق «استقرار الأسعار» و«التوظيف الكامل» قد يتعارض في بعض الظروف الاقتصادية، وبالتالي قد لا يعتبره القضاة «مبدأ مفهوماً» واضحاً بالمعنى القانوني المطلوب.

وحذر تارولو من أن توجهات المحكمة العليا الأخيرة «تشير إلى مشاكل كبيرة، إن لم تكن جوهرية، لقانون الاحتياطي الفيدرالي».

وفي لقاء مع تارولو لمعرفة كيف يرى تأثير هذه التطورات الأخيرة على مستقبل الاحتياطي الفيدرالي بعد مرور عام على تحليله الأولي، توقع البروفيسور دانيال تارولو أن تصل قضايا استقلالية الوكالات المستقلة إلى القضاء، مشيراً إلى أن قضية غوين ويلكوكس، المُقالة من المجلس الوطني لعلاقات العمل، هي الأهم، فإذا قضت المحكمة بأن الحماية القانونية من الإقالة غير دستورية فقد يؤدي ذلك إلى التشكيك في شرعية جميع الوكالات المستقلة.

وأضاف أن الاحتياطي الفيدرالي قد يتمكن من تقديم مبررات قانونية تميزه عن غيره من الوكالات، أو قد تقتصر القضية على المجلس الوطني لعلاقات العمل فقط، كما تناول ذلك في ورقته البحثية، لكنه حذر من أن أي حكم مباشر من المحكمة العليا في هذا الشأن قد يثير تساؤلات حول الأساس الدستوري لمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي نفسه.

ويعتقد تارولو أن الإدارة الجديدة لا تبدو متحمسة لاستهداف الاحتياطي الفيدرالي في الوقت الحالي.

وأوضح قائلاً: «ليس من مصلحتها أن تعطي انطباعاً بأنها تخطط لإقالة جيروم باول أو أعضاء آخرين في المجلس، ويبدو أنهم يدركون ذلك جيداً»، لكن النقطة الشائكة تكمن في الفصل بين السياسة النقدية والرقابة المالية ضمن اختصاصات الاحتياطي الفيدرالي، حيث توجد العديد من المساحات الرمادية، مثل برامج الإقراض الطارئ وسياسات الاستقرار المالي، مما يجعل الاستثناء، الذي تضمنه أول أمر تنفيذي لترامب موضع جدل.

في النهاية خلص تارولو إلى أن العامل الحاسم قد يكون رد فعل الأسواق المالية في حال قرر ترامب توجيه ضربة لاستقلالية الاحتياطي الفيدرالي.