هل يمكن أن تغرق استراتيجية ترامب الإعلامية «وول ستريت» في الفوضى؟

تيج باريخ

وصف ستيف بانون، المستشار السابق لدونالد ترامب، الاستراتيجية الإعلامية للرئيس الأمريكي ذات مرة بأنها تقوم على «إغراق المنطقة»؛ أي إغراق الجمهور بوابل من المعلومات بهدف الإلهاء، وإثارة البلبلة، ومنع التدقيق والمساءلة، لكن هل يمكن أن تمتد آثار هذه الاستراتيجية إلى سوق الأسهم أيضاً؟

في أوقات الاستقرار السياسي يحظى المستثمرون ببيئة مناسبة لتقييم الأسهم، إذ يمكنهم استشراف العوامل الاقتصادية الأساسية مثل الطلب والتكاليف وأسعار الفائدة بدرجة معقولة من الثقة.

إلا أن الأجندة الحمائية المتشابكة التي يتبناها ترامب دفعت بحجم الشك وعدم اليقين إلى مستويات غير مسبوقة، وفقاً لمؤشر «عدم اليقين في السياسات الاقتصادية الأمريكية»، الذي يرصد تكرار كلمات مفتاحية في التغطية الصحفية.

ومع بدء تطبيق التعريفات «المتبادلة» اليوم يتضح أن أسلوب ترامب، المتمثل في تبديل المواعيد النهائية، والتلاعب بنسب الرسوم، وربط الضرائب بمفاوضات مفتوحة قد وضع المستثمرين وسط مشهد ضبابي، يصعب فيه تسعير الأصول وتقييمها بقيمتها الحقيقية.

وعادة ما يتحرك مؤشر «فيكس» – أو مقياس تقلبات الأسهم المعروف بـ«مقياس الخوف» في وول ستريت - بالتوازي مع مؤشر عدم اليقين الاقتصادي، لكن منذ مطلع العام، ظهر تباين لافت بينهما؛ فبينما ارتفع عدم اليقين بشكل ملحوظ بقيت تقديرات السوق للتقلبات منخفضة نسبياً، في مشهد لم يتم تسجيله منذ الولاية الأولى لترامب.

وقد خلصت دراسة أجراها أكاديميون في كلية بوث للأعمال عام 2017 إلى أن الأسواق أخفقت في التفاعل مع حالة عدم اليقين لأن رسائل البيت الأبيض كانت «غير موثوقة ويصعب على المستثمرين تفسيرها».

وتعكس الصلابة التي يظهرها مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» حالياً، رغم تراجع توقعات النمو وشبح التعريفات الجمركية وعدم الاستقرار المالي، معضلة مشابهة في تسعير المخاطر السياسية، كما تسهم التخمة المعلوماتية في تقديم تفسير للأداء المتناقض ظاهرياً لأسواق الأسهم.

وعلى سبيل المثال فقد سجل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» مستويات قياسية جديدة يوم الاثنين، رغم أن متوسط معدل الرسوم الجمركية الفعلية في الولايات المتحدة بات اليوم أعلى بنحو سبعة أضعاف مما كان عليه العام الماضي.

ويتجه للعودة إلى مستويات كانت قد تسببت في تراجع المؤشر الرئيسي للأسهم إلى ما دون 5000 نقطة بعد «يوم التحرير»، واليوم، أصبح المؤشر أعلى بنسبة تقارب 30%.

وتكتسب آلية إيصال البيت الأبيض لرسائله أهمية استثنائية في هذا السياق، إذ يبدو أن عادة ترامب المتمثلة في التراجع عن السياسات «السيئة» قد تلعب دوراً محورياً في دفع السوق نحو مزيد من الصعود.

فالناس يميلون إلى تفضيل المخاطر المعروفة على تلك المجهولة، وهي سمة نفسية تعرف باسم «تجنب الغموض»، كما أننا نعطي للخسائر وزناً نفسياً يفوق المكاسب، ما يجعل تفادي الخسارة يبدو كأنه انتصار بحد ذاته.

ويقول نيل دوتا، رئيس الدراسات الاقتصادية في مؤسسة رينيسانس ماكرو للأبحاث: «يبدو جلياً أن التراجع عن التهديد له تأثير إيجابي على الأسهم يفوق التأثير السلبي للتهديد نفسه».

ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما شهدناه في أواخر أبريل، حين شن ترامب هجوماً عنيفاً على رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، مصرحاً بأن «عزله لا يمكن أن يحدث بالسرعة الكافية»، ثم ما لبث أن أعلن بعد أيام قليلة أنه «ليس لديه أي نية لإقالة» باول، ليشهد مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» قفزة كبيرة، متجاوزاً بشكل ملحوظ مستويات الهبوط التي نجمت عن تهديداته الأولية.

وتؤكد نتائج دراسة أكاديمية نشرت في سبتمبر 2024 هذه النظرية، حيث كشفت أنه عندما نستهلك جرعات صغيرة من المعلومات بشكل متكرر تصبح معتقداتنا أقل دقة وأكثر حساسية للإشارات الحديثة، مقارنة بما يحدث عندما يتم استيعاب نفس البيانات دفعة واحدة.

وقد تعامل المستثمرون مع إعلان التعريفات الجمركية «المتبادلة» الضخم في أبريل باعتباره نذير شؤم للاقتصاد الأمريكي، ما أطلق شرارة عمليات بيع مكثفة للأسهم الأمريكية وسندات الخزانة، ما اضطر الإدارة إلى إرجاء تطبيقها.

لكن حالياً يمكن أن يعطي المستثمرون وزناً أكبر للتطورات الإيجابية الأحدث بشأن الرسوم الجمركية، مثل التخفيضات، والتأجيلات، والاتفاقيات التجارية، كما أن سلسلة النتائج القوية لأرباح الربع الثاني قد تغذي نزعة التفاؤل، رغم استمرار تسلل آثار التعريفات المرتفعة إلى مفاصل الاقتصاد.

ويعني هذا أن التغيرات النسبية في معدلات الرسوم قد يكون لها وقع أكبر من مجمل الزيادة التراكمية منذ بداية العام.

وتحذر فريا بيميش، كبيرة الاقتصاديين في مؤسسة «تي إس لومبارد» قائلة: «سلسلة من الصدمات البسيطة أصعب بكثير على الأسواق من حيث التسعير مقارنة بصدمة كبيرة واحدة، لكن يبدو أن الضفدع ما زال يطهى على نار هادئة».

ويعد استمرار تداول الأسواق الأمريكية عند تقييمات تاريخية مرتفعة، في وقت تقترب فيه الرسوم الجمركية على الواردات من أعلى مستوياتها منذ قرن، وفي ظل احتمال بقاء أسعار الفائدة مرتفعة، أمراً مثيراً للقلق.

وبينما يدفع التفاؤل المحيط بتقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب صمود السوق في وجه الرسوم الجمركية، مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» إلى آفاق أعلى، فإن الضجيج المعلوماتي يلقي بظلاله على عملية اكتشاف القيم السعرية الحقيقية، وسيأتي حتماً اليوم الذي تفرض فيه الحقائق الاقتصادية نفسها، فاستراتيجية «إغراق المنطقة» قد تؤجل لحظة الحساب، لكنها لن تستطيع أبداً منع حدوثها.