آندي باوندز - هنري فوي - بن هول
أدت الرسوم الجمركية الواسعة التي أطلق عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «رسوم يوم التحرير»، وفرضها مطلع شهر أبريل على معظم دول العالم، إلى هزة عنيفة في الأسواق المالية دفعت المستثمرين إلى بيع الأصول الأمريكية خشية ركود وشيك، لكن مع تفاقم الأوضاع، تراجع ترامب في 9 أبريل وخفض التعرفة إلى 10%، واصفاً تلك الخطوة بأنها «مؤقتة».
في مواجهة ذلك، قامت بروكسل في 10 أبريل بتعليق الرسوم الانتقامية التي أقرتها وقبلت عرض واشنطن للحوار، بينما كانت السكين على رقبتها: رسوم بنسبة 10% على معظم تجارتها مع الولايات المتحدة، إلى جانب ضرائب أعلى على الصلب والألمنيوم والسيارات.
وبدلاً من الانضمام إلى كندا والصين في ردٍ فوري، آثرت أوروبا — المكبلة بتباين مواقف دولها الأعضاء — أن تسلك درب التسوية طمعاً في انتزاع صفقة أفضل.
وبموجب الاتفاق الإطاري الذي أبرمته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مع ترامب في منتجع «تيرنبيري» للغولف الأحد، قبل الاتحاد الأوروبي بفرض رسم أساسي شامل من جانب الولايات المتحدة بنسبة 15%، بما يشمل السيارات على وجه الخصوص، فيما تم استثناء الصلب الذي سيخضع لنظام الحصص.
ورغم ارتياح صناع القرار في بروكسل لتفادي اندلاع حرب تجارية بين ضفتي الأطلسي، فإن هذا الشعور لم يخل من الندم: فهل كان بإمكان الاتحاد الأوروبي، باعتباره أكبر تكتل تجاري في العالم وقوة اقتصادية يفترض أنها مؤثرة، أن ينتزع شروطاً أفضل؟
يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: «يُنظر إلى ترامب على أنه المتنمر القوي في ساحة المدرسة، وللأسف نحن لم ننضم إلى الآخرين في مواجهته. لذلك، من لا يتكاتفون معاً يتم تعليقهم واحداً تلو الآخر».
ويرى جورغ ريكيليس، المسؤول السابق في المفوضية الأوروبية والذي شارك في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد، أن التهديد الأخير الذي لوح به الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم انتقامية بقيمة 93 مليار يورو على السلع الأمريكية «كان متأخراً جداً».
إن ترامب ينظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه «كيان طفيلي يعيش على حساب السوق الأمريكية المربحة، بينما يغلق أسواقه من خلال القواعد والتنظيمات».
كما سبق للرئيس الأمريكي أن قال إن «الاتحاد الأوروبي أكثر خبثاً من الصين».
لقد جاء رد فعل الاتحاد الأوروبي على عودة ترامب إلى السلطة في يناير مرتبكاً ومتأخراً.
وذهبت أدراج الرياح أشهر من التحضيرات التي أشرف عليها فريق مخصص ضم كبار المسؤولين التجاريين، بقيادة سابين فايند – إحدى المخضرمات في مفاوضات «بريكست» – ومعها توماس بارت، المستشار التجاري لرئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين.
وكان الفريق قد وضع خطة ثلاثية تستند إلى نهج سبق اعتماده خلال الولاية الأولى لترامب، تقضي أولاً بعرض تقليص العجز في الميزان التجاري للسلع – الذي يناهز 200 مليار يورو – من خلال شراء مزيد من الغاز الطبيعي المسال والأسلحة والمنتجات الزراعية الأمريكية وثانياً: عرض خفض الرسوم الجمركية المتبادلة على السلع.
وإذا فشلت تلك المبادرات، كان من المخطط أن يعد الاتحاد الأوروبي إجراءات انتقامية، وأن يعول على استجابة الأسواق لاحتمال اندلاع حرب تجارية أو ارتفاع معدلات التضخم في أمريكا للضغط على ترامب للتراجع، لكن ترامب تحرك بوتيرة أسرع من المتوقع، وفرض بحلول مارس رسوماً جمركية بنسبة 25% على الصلب والألمنيوم والسيارات.
وخلال اجتماع لوزراء التجارة الأوروبيين في لوكسمبورغ ذلك الشهر، ساد جو من الغضب، حيث طالب عدد منهم باتخاذ خطوات أكثر تشدداً.
ودفع عدد من الدول الأوروبية باتجاه تفعيل «أداة الردع التجاري» الجديدة، التي صممت بعد الولاية الأولى لترامب لمواجهة استخدام السياسات التجارية كوسيلة ضغط في قضايا غير تجارية.
وتتيح هذه الأداة للمفوضية منع الشركات الأمريكية من دخول المناقصات العامة، وسحب الحماية عن حقوق الملكية الفكرية، وفرض قيود على الاستيراد والتصدير.
لكن دبلوماسيين أشاروا إلى أنه لم يكن من الواضح ما إذا كانت غالبية الدول الأعضاء تؤيد مثل هذا الإجراء التصعيدي.
وعندما أبرمت المملكة المتحدة اتفاقاً تجارياً مع واشنطن في مايو، وقبلت بالرسوم الجمركية الأساسية التي فرضها ترامب بنسبة 10%، شكل ذلك دافعاً إضافياً للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي كانت تسعى إلى تسوية، وعلى رأسها ألمانيا.
وفي الأثناء، هدأت وتيرة التصعيد المتبادل الحاد بين الولايات المتحدة والصين، بعد أن توصل الطرفان إلى تهدئة جزئية، مما بدد مخاوف المستثمرين من فوضى تجارية عالمية.
وقد تمسكت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، على مدى أشهر، بعرض الاتحاد الأوروبي المبكر القاضي بإلغاء جميع الرسوم الجمركية الصناعية إذا قامت الولايات المتحدة بخطوة مماثلة.
إلا أن واشنطن كانت قد أوضحت منذ البداية أنها تطالب بتنازلات أحادية الجانب.
لقد كانت برلين منهمكة في التفاوض على خطة معقدة لـ«التعويضات» تهدف إلى منح إعفاءات جمركية للشركات الأوروبية – وعملياً الشركات الألمانية – التي تنتج وتصدر من الأراضي الأمريكية.
وفي الوقت الذي كان فيه التكنوقراط الأوروبيون يلتزمون بـ«قواعد كوينزبيري النزيهة للملاكمة»، كان ترامب يخوض قتال شوارع على طريقة نيويورك.
وقد أُرسل المفوض الأوروبي للتجارة، ماروش شيفتشوفيتش، هذه الشخصية الودودة، إلى واشنطن 7 مرات مقترحاً مجالات للتوافق، وألقى خطباً حول أهمية العلاقة عبر الأطلسي، وروج لمقترح ألمانيا بشأن «تعويضات السيارات».
لكن من الواضح أن شيفتشوفيتش أضاع أكثر من 100 ساعة في محادثات محبطة مع نظرائه الأمريكيين.
وفي يوليو، أشارت تقارير إلى أنه توصل لاتفاق مبدئي مع الممثل التجاري الأمريكي جيميسون غرير ووزير التجارة هوارد لوتنيك على فرض رسوم «متبادلة» دائمة بنسبة 10%، لكن ترامب رفضه رفضاً قاطعاً، مهدداً برفع الرسوم على الاتحاد الأوروبي إلى 30% بدلاً من 20% اعتباراً من أغسطس.
لقد كشفت حالة الغموض التي استمرت لأشهر بشأن مسار المحادثات عن انقسامات داخل المفوضية الأوروبية نفسها.
فسابين فايند، الخبيرة الحازمة التي كثيراً ما تفوقت على نظرائها البريطانيين في مفاوضات «بريكست»، دعت باستمرار إلى اتباع نهج أكثر تشدداً تجاه ترامب وتفعيل أدوات الرد الأوروبية. في المقابل، كانت فون دير لاين أكثر ميلاً إلى التهدئة.
كما دعت الحكومة الفرنسية، على الرغم من محاولاتها لحماية الشركات الفرنسية من الانتقام، مراراً وتكراراً إلى نهج أكثر قوة من جانب المفوضية تجاه تعريفات ترامب، لكن رئيسة المفوضية والمقربين منها ردوا بأن الأضرار المحتملة من إجراءات إضافية قد يتخذها ترامب – ومنها فرض رسوم محددة على قطاعات حيوية مثل الصناعات الدوائية الأوروبية – تجعل من المجازفة بخوض حرب تجارية شاملة أمراً خطيراً للغاية.
كما أن التصعيد في ملف التجارة مع واشنطن كان يخشى أن يمتد إلى ملفات أخرى.
فالاعتماد الأوروبي على الضمانات الأمنية الأمريكية شكل سبباً إضافياً يدفع دول الشرق والشمال الأوروبي إلى تفادي المواجهة.
وأكد دبلوماسيون أن المخاوف من أن يقطع ترامب الدعم العسكري لأوكرانيا، أو يسحب القوات الأمريكية من أوروبا، أو حتى ينسحب من حلف الناتو، خيمت على أجواء المفاوضات.
ومن أولويات فون دير لاين كذلك الحفاظ على حق الاتحاد الأوروبي في تنظيم سوقه الداخلي.
فالقطاع التكنولوجي الأمريكي مارس ضغوطاً على ترامب كي يجبر الاتحاد على التراجع عن قوانينه المنظمة لحرية التعبير الرقمية وإدارة البيانات، كما عارض بشدة الضرائب الرقمية الوطنية. لكن فون دير لاين رفضت حتى الآن تقديم أي تنازلات في تلك الملفات.
وبعد أن رفض ترامب العرض الذي توصل إليه فريقه، خلص الفريق التفاوضي الأوروبي إلى أنه لا خيار أمامه سوى قبول فرض رسوم أمريكية بنسبة 15%.
وقد طرح هذا الرقم على سفراء الدول الأعضاء هذا الأسبوع. وعموماً، فقد خلص أحد السفراء الأوروبيين إلى القول: «لا يمكن إخفاء الحقيقة: لقد تم سحق الاتحاد الأوروبي تحت مدحلة ترامب».