جانان غانيش
في أعقاب تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، سادت في الولايات المتحدة حالة من الندم الشديد على ما اعتبره كثيرون «خسارة الصين لصالح المعسكر الشيوعي». وساد اعتقاد بأنه لو كان الرئيس هاري ترومان اتخذ مواقف أكثر صرامة.
وتم تقديم دعم أقوى للحزب القومي الصيني، وجرى تجنب عدم الانشغال بمشاريع إعادة إعمار أوروبا واليابان، لكان ذلك كفيلاً بمنع تحول أكبر دولة في العالم إلى الشيوعية، لكن في خضم تبادل الاتهامات، تم تجاهل حقيقة مهمة، هي أن للصين وشعبها الحق في تقرير مصيرهم.
أما اليوم، فقد تحول السؤال من «مَن المسؤول عن خسارة الصين؟» إلى «مَن المسؤول عن تمكين الصين؟» (والهند ودول أخرى).
ويتبنى الحزب الجمهوري، إلى جانب عدد كبير من الديمقراطيين، رواية تقول إن الولايات المتحدة، تحت قيادة إدارات تفتقر للحكمة، فتحت اقتصادها أمام التجارة العالمية، بينما كان الأجانب أكثر ذكاءً وحذراً في هذا المجال، ما أدى إلى تراجع المكانة النسبية لأمريكا.
وبهذه الطريقة، كما تقول الرواية، «سُمح» للصين بالتحول إلى قوة عظمى. وطالما استمر هذا الفهم المغلوط للتاريخ الحديث، فستظل السياسات الحمائية والتوجهات المناهضة للتجارة الحرة مهيمنة على المشهد السياسي في واشنطن.
من الضروري هنا تصحيح عدة مفاهيم خاطئة شائعة. أولاً: لم يكن انضمام الصين إلى النظام التجاري العالمي سهلاً أو سريعاً كما يعتقد البعض، فقد واجهت معارضة قوية من الولايات المتحدة ودول أخرى.
ورغم أنه تم تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995، فقد حُرمت الصين من العضوية، ولم تنضم إليها إلا في عام 2001، بشروط صارمة غير معتادة.
وذلك بعد 23 عاماً من إعلان دنغ شياو بينغ سياسة الباب المفتوح، لذا فإن الادعاء بأن واشنطن تصرفت بتسرع وسذاجة في فتح أبوابها للصين لا يتفق مع الوقائع التاريخية.
ثانياً: حتى لو افترضنا أن الولايات المتحدة كان بإمكانها إبطاء الصعود الاقتصادي للصين عبر تقليص التجارة معها، فهل كان ذلك سيتم دون تكلفة على الاقتصاد الأمريكي نفسه؟
فنجاح أمريكا في كبح التضخم خلال التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة لم يكن فقط بفضل السياسات المصرفية الحكيمة، بل أيضاً بفضل الواردات الرخيصة من مراكز التصنيع الجديدة في آسيا.
وخلال فترة «الاعتدال العظيم»، تمتعت الولايات المتحدة باستقرار داخلي وفترة من الاقتراض منخفض الفائدة، ما مكّن من إطلاق مشاريع تجارية كبرى.
ومعظم شركات التكنولوجيا العملاقة باستثناء واحدة، تأسست في العقود المحيطة بالألفية، لذا فإن أي محاولة لتخيل سيناريو بديل نجحت فيه أمريكا في عرقلة الصين يجب أن تأخذ في الاعتبار النتائج السلبية المحتملة على الاقتصاد الأمريكي نفسه.
ولنفترض جدلاً أن الصين مارست سياسة مزدوجة في علاقاتها التجارية، يبقى السؤال المهم: ما البديل الواقعي عن السماح لها بالانضمام للنظام التجاري العالمي؟ هل كان من المنطقي أو الممكن أن يقوم الغرب والمؤسسات الدولية التي أنشأها باستبعاد دولة تمثل نحو خُمس سكان العالم؟
دولة قضت جيلاً كاملاً في محاولة التحرر (ولو بشكل غير مكتمل) من النظام الاقتصادي الشيوعي، مثل هذا الاستبعاد كان سيقوض مصداقية وشرعية النظام العالمي بأكمله.
الحقيقة، التي قد تبدو مؤلمة لكنها مطمئنة في الوقت نفسه، هي أن الولايات المتحدة لم يكن بإمكانها فعل الكثير للحفاظ على موقع مهيمن غير منازع.
فبمجرد أن بدأت الصين إصلاحاتها الاقتصادية في نهاية السبعينيات، ثم تبعتها دول الكتلة السوفيتية السابقة بعد عقد، ثم الهند التي كانت شبه منغلقة على نفسها، أصبح من المحتم أن تتراجع حصة أمريكا من الناتج العالمي، وبالتالي قدرتها على التأثير في الأحداث العالمية.
(وهو تراجع كان مستمراً بالفعل منذ الذروة التي وصلت إليها قوة أمريكا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية)، فالتفوق الغربي اعتمد جزئياً على اتخاذ بعض أكثر دول العالم سكاناً خيارات اقتصادية سيئة. وبمجرد تصحيح تلك الخيارات، كان ظهور توازن قوى عالمي جديد أمراً حتمياً.
ولو قام محقق بفحص نهاية عصر القطب الأمريكي الواحد، لخلص إلى أن «الوفاة» كانت طبيعية، وليست انتحاراً أو حادثاً عرضياً. حتى أولئك الذين يفضلون عالماً تقوده الولايات المتحدة على البدائل المتاحة، عليهم أن يدركوا أنه من غير المنطقي أن تهيمن دولة تمثل 4 أو 5 % فقط من سكان العالم على المشهد العالمي.
فهذه القوة العددية نفسها هي التي مكنت الولايات المتحدة من تجاوز بريطانيا كقوة عظمى قبل نحو قرن. في ذلك الوقت، كان للبريطانيين الليبراليين شكاواهم من «الأمريكي» ، الذي بنى صناعته خلف جدران الحماية الجمركية.
لكن بالنظر للوراء اليوم، من يعتقد أن الحمائية كانت القضية الأهم؟ فطالما تجنبت أمريكا إلحاق الضرر بنفسها، كان حجمها سيحسم الأمر في النهاية.
قد تكون هناك أسباب أخرى لتفضيل السياسات الحمائية، فهي يمكن أن تجبر الدول على تقديم تنازلات، سواء في القضايا التجارية نفسها أو في قضايا غير مرتبطة، كما أظهرت تجارب كندا والمكسيك أخيراً.
كما أن بعض التقنيات تعتبر استراتيجية لدرجة تستحق معها الدعم الحكومي. (ومع الوقت، سنرى كيف يتوسع تعريف هذه التقنيات الاستراتيجية مع نجاح جماعات الضغط الصناعية في إقناع الكونغرس.
وفي النهاية إقناع دافعي الضرائب). وقد يكون من المنطقي أيضاً الاستمرار في دعم المدن الصناعية غير القادرة على البقاء اقتصادياً، وذلك لمنع التدهور الاجتماعي.
المشكلة أن الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة أقنعت نفسها بمعتقد مختلف وأقل منطقية، هو أن التجارة الحرة هي المسؤولة عن تراجع المكانة الأمريكية عالمياً، وهو تراجع يتضح اليوم في الأسلوب الصارخ الذي تفرض به أمريكا عقوباتها.
كما يتضح أيضاً في المفاجأة التي أحدثها إطلاق الصين لنموذج الذكاء الاصطناعي «ديب سيك»، الذي يذكرنا بصدمة إطلاق القمر الصناعي «سبوتنيك»، لذا يرى البعض أن تقليص التجارة، أو حتى فرض قيود عليها، قد يساعد في وقف هذا التراجع أو التخفيف من حدته.
وتبدو هذه الحجة للوهلة الأولى وكأنها مراجعة ذاتية شجاعة، ما يمنحها بعض المصداقية، لكنها في الواقع مجرد غطاء مريح، لأنه يصور التراجع النسبي كخيار؛ كشيء يمكن إصلاحه.
والصراحة الحقيقية تكمن في قبول حقيقة أن للدول الأخرى إرادتها المستقلة، وأن خياراتها في العقود الأخيرة كان لها تأثير في تراجع المكانة الأمريكية أكبر من أي قرار اتخذ في واشنطن.
إن رواية «خسارة الصين» شوهت السياسة الأمريكية لعقود، فقد أسهمت في صعود المكارثية كما أسهمت في الكارثة التي حدثت في فيتنام، مع سعي السياسيين للتكفير عن «فشل» لم يكن في الواقع فشلاً. وإذا كنا الآن على أعتاب عصر جديد من اللوم غير المبرر، فلنأمل أن تقتصر عواقبه على بعض التعريفات الجمركية المكلفة فقط.