الاقتصاد الأمريكي يتحدى التوقعات.. لكن إلى متى؟

مايلز ماكورميك - كلير جونز

يحبس خبراء الاقتصاد أنفاسهم، قلقاً، منذ أن تولّى دونالد ترامب الرئاسة قبل ستة أشهر، بعدما وعد في ولايته الثانية بطرح أجندة سياسية واقتصادية جذرية، شملت حملة موسعة لتقييد الهجرة، بما يهدد بخفض المعروض من اليد العاملة، وتقليصاً كبيراً في حجم الحكومة الفيدرالية، إلى جانب نظام جمركي جديد، يحمل تداعيات سلبية محتملة على النمو والتضخم.

لكن المؤشرات الاقتصادية — على الأقل حتى الآن — لم تُظهر تداعيات واضحة لهذه السياسات، بل إن البيانات الرسمية فاقت توقعات الخبراء مراراً.

ولذلك، كتب ترامب عبر منصته «تروث سوشال» هذا الشهر: «أخطأت وسائل الإعلام الكاذبة، وما يُسمّى بـ «الخبراء»، مجدداً، فالرسوم الجمركية تجعل بلادنا تزدهر».

وقد لا يكون الاقتصاد في حالة ازدهار، كما يقول دونالد ترامب، لكنه أيضاً لم يشهد انهياراً، كما كان يخشى كثير من الخبراء، بعد الإعلان عن النظام الجمركي الجديد في الثاني من أبريل، أو ما يُعرف بـ «يوم التحرير».

ولا يزال معدل التضخم - رغم الارتفاع الطفيف - عند مستويات معتدلة، وأثبت سوق العمل متانته، كما بقيت أرباح وول ستريت قوية، في حين انتعشت الأسهم بعد انخفاض مؤقت.

وفي حين سجل الاقتصاد انكماشاً في الأشهر الثلاثة حتى أبريل، وهو أول تراجع فصلي منذ ثلاث سنوات - ظلت الأسواق هادئة، حيث فسر المستثمرون انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5 %، على أنه بسبب التسابق لاستيراد البضائع قبل تطبيق التعريفات الجمركية، لا مؤشّراً على ضعف اقتصادي هيكلي.

ومن المتوقع أن يقفز النمو في الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.4 % في أرقام الربع الثاني، المقرر صدورها قريباً، وفقاً لتقديرات مؤشر «جي دي بي ناو»، الذي يصدر عن الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا.

وقال توماس سايمونز، كبير الاقتصاديين الأمريكيين في بنك «جيفريز»، تعليقاً على الوضع العام للاقتصاد: «لا أرى سبباً كبيراً يدعو للقلق على نطاق واسع»، مشيراً إلى أن التشاؤم السائد في ثقة المستهلكين، منفصل عن الواقع الاقتصادي الفعلي.

وأضاف: «إذا استعرضنا التاريخ لمعرفة ما يسبب فترات الركود، فالأمر يتعلق حقاً بالصدمات المالية، وتقلص المعروض النقدي، أو التحولات الكبيرة في السياسة المالية التقشفية، وهذه العوامل غير موجودة حالياً».

ويوافقه الرأي أندرو هولنهورست، كبير الاقتصاديين في «سيتي بنك»، قائلاً: «هذا اقتصاد أظهر على مدى عدة سنوات، مرونة أكبر مما كان يتوقعه المحللون».

في المقابل، يُحذر آخرون من أن التداعيات، وإن لم تظهر بالسرعة المتوقعة، لا تزال ماثلة، وقد تبدأ في الظهور خلال الأشهر المقبلة.

وأثار التفاعل الهادئ للأسواق تجاه الأجندة الراديكالية للرئيس الأمريكي، ابتهاجاً في أروقة الإدارة الأمريكية، إذ يرى المسؤولون في ذلك دليلاً على أن التحذيرات من تداعيات اقتصادية سلبية، كان مبالَغاً فيها.

وتأتي في صدارة السياسات التي توقع محللون أن تُضعف الاقتصاد الأمريكي، لجوء ترامب إلى فرض رسوم جمركية شاملة، لإعادة تشكيل علاقات التجارة الأمريكية مع دول العالم.

فقد أثارت تهديدات دونالد ترامب بفرض ضرائب ضخمة على الدول التي تفشل في إبرام صفقة مع الولايات المتحدة، فضلاً عن تذبذبه المتكرر في تحديد مستويات هذه الرسوم، حالة من البلبلة والهواجس، من أن المواطن الأمريكي سيتجرع في المحصلة النهائية مرارة هذه السياسات، عبر ارتفاع أسعار السلع.

لكن حتى الآن، لا تزال آثار هذه الرسوم على الأسعار محدودة، فقد بقي التضخم تحت السيطرة، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك إلى 2.7 % سنوياً في يونيو، مع بدء تسرب تأثير التعريفات الجمركية.

واستقر المؤشر دون حاجز الـ 3 % منذ يناير، في تباين صارخ، مع الذروة التي تجاوزت 9 % في 2022، إبّان جائحة كوفيد، كما أنها تقترب من المستهدف البالغ 2 %، الذي حدده الفيدرالي الأمريكي.

وسجلت ثقة المستهلكين الأمريكيين ارتفاعاً في يوليو، لتبلغ أعلى مستوياتها خلال خمسة أشهر، وفق استطلاعات جامعة ميشيغن، في حين تراجعت توقعات التضخم.

كما حافظ سوق العمل على متانته، رغم المخاوف من أن تؤدي حالة الغموض إلى تراجع التوظيف.

فقد أُضيف نحو 800 ألف وظيفة خلال النصف الأول من العام، متجاوزاً التوقعات لأربعة أشهر متتالية، بينما ظل معدل البطالة عند مستوى 4.1 %، وهو ما يُعد في نظر الاحتياطي الفيدرالي قريباً من التوظيف الكامل.

وحتى الشركات الكبرى، فاقت نتائجها التوقعات، إذ أعلنت الغالبية العظمى منها عن أرباح أقوى من المتوقع خلال الربع الثاني من العام.

ووفقاً لبيانات «فاكت ست»، فإن 80 % من شركات مؤشر «ستاندرد آند بورز 500»، التي أفصحت عن نتائجها حتى صباح الجمعة - وتمثل 34 % من إجمالي الشركات المدرجة بالمؤشر - تفوقت نتائجها على متوسط التوقعات.

واستثمر الرئيس الأمريكي هذه الأرقام في محاولته الضغط على الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، بهدف «إطلاق العنان» للنمو، وكبح مدفوعات الدين الأمريكي.

لكن من غير المرجّح أن تكون الصورة قد اكتملت بعد، بشأن تأثير الرسوم الجمركية في التضخم، بالقدر الذي يسمح لصنّاع السياسة في الاحتياطي الفيدرالي باتخاذ قرار بخفض أسعار الفائدة، وذلك قبيل اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، المقرر بعد غد الأربعاء، لحسم الخطوة التالية في مسار تكاليف الاقتراض الأمريكية.

ومن المستبعد أن تمنح غالبية اللجنة موافقتها على خفض الفائدة، قبل تصويت منتصف سبتمبر، على أقرب تقدير.

ويقول فنسنت راينهارت المسؤول السابق في الفيدرالي، وكبير الاقتصاديين في «بي إن واي إنفستمنتس»: «من المرجّح أن يشهد التصويت معارضتين للأغلبية».

ويُرجّح أن تكون المعارضتان من اثنين من أعضاء الاحتياطي الفيدرالي الذين عيّنهم ترامب: كريستوفر والر، وهو من أبرز المرشحين المحتملين لخلافة جيروم باول في رئاسة المجلس، وميشيل بومان، إذ أشار إلى أنهما يريان أن الاقتصاد الأمريكي قادر على امتصاص تأثير السياسات الجمركية للرئيس على الأسعار.

ويضيف راينهارت أنهما يعتقدان أن الرسوم الجمركية لن تُحدث سوى صدمة سعرية عابرة.

بيد أن البيانات الأخيرة كشفت عن إشارات تحذيرية على لوحة المؤشرات الاقتصادية، فقد تكون الصورة الإيجابية لسوق العمل مضللة، حيث يعود جزء كبير من النمو القوي المُسجّل في يونيو، إلى ارتفاع التوظيف في القطاع الحكومي على مستوى الولايات، في حين شهد القطاع الخاص تباطؤاً في التوظيف.

وفي الوقت ذاته، كشفت أرقام التضخم لشهر يونيو، ولأول مرة، عن أن التعريفات الجمركية بدأت تترك بصمتها، حيث ارتفعت أسعار السلع المرتبطة بالواردات، بما في ذلك الأجهزة المنزلية والأثاث والملابس والإلكترونيات.

أما سوق العقارات، فقد شهد تراجعاً ملحوظاً، متأثراً بارتفاع الأسعار، ومعدلات الفائدة على الرهون العقارية، حيث انخفضت مبيعات المنازل القائمة إلى أدنى مستوى لها خلال تسعة أشهر في يونيو.

وهكذا، لم تتبلور بعد الانعكاسات الكاملة لبعض السياسات، إذ يُتوقع أن تبدأ آثار حملة الترحيل التي يقودها الرئيس، والتي ستلقي بظلالها على مشهد التوظيف - فضلاً عن تقليص العقود الحكومية في التسرب إلى المشهد الاقتصاد الأوسع في وقت لاحق من العام.