كيف يمكن العيش في عالم يفتقر إلى قوة عالمية قائدة؟

مينوش شفيق
في ظل إدارة ترامب تتراجع الولايات المتحدة عن دورها القيادي العالمي، الذي لعبته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. 

يأتي ذلك بينما يواجه العالم تحديات جمة، وهناك حاجة ماسة للاستقرار وحلول منسقة للمشاكل العالمية، لكن من أين ستأتي القيادة لحلها؟

يقول البعض إننا الآن في عالم يفتقر إلى قوة عالمية واحدة، حيث لا أحد يتحكم، وهناك حالة من عدم اليقين، والأقوياء يملون الحلول على اللاعبين الأضعف.

ويقول آخرون إننا نتجه نحو تقسيم إقليمي – عالم ثلاثي، حيث تمتلك الولايات المتحدة وروسيا والصين مجالات نفوذ في نسخة معاصرة من عصبة الأباطرة الثلاثة (ذلك التحالف بين الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية المجرية في أواخر القرن التاسع عشر).

وقد تتشكل نسخة ما من نظام جديد متعدد الأقطاب، ولكن يبدو واضحاً أيضاً أن عالماً يفتقر إلى قوة عالمية واحدة بدأ يملأ الفراغ في بعض المجالات، حيث تتحد الدول لإيجاد حلول للمشاكل العالمية دون تدخل من الولايات المتحدة.

ولننظر إلى رد الفعل تجاه حالة عدم اليقين، التي خلقتها سياسة ترامب الجمركية، وبينما تتدافع الدول للتفاوض مع الولايات المتحدة فإنها تحاول أيضاً تنويع تجارتها لتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية.

وتحول الصين الواردات الرئيسية مثل فول الصويا وأشباه الموصلات والطاقة إلى الموردين في الأرجنتين والبرازيل وروسيا وآسيا.

كما سرعت أوروبا وتيرة المفاوضات مع كندا واليابان وأستراليا ودول ميركوسور في أمريكا الجنوبية، وتبني الاقتصادات الآسيوية سلاسل توريد إقليمية في إطار الشراكة عبر المحيط الهادئ، التي قررت الولايات المتحدة عدم الانضمام إليها، وسيعني هذا التحويل التجاري ارتفاع الأسعار، ولكنه في الوقت نفسه ينوع المخاطر في عالم غير مؤكد.

وهذه ليست المحاولة الأولى للالتفاف على تراجع أمريكا عن المشاركة العالمية، فمنذ عام 2017 رفضت الولايات المتحدة تعيين قضاة في لجنة التحكيم في منظمة التجارة العالمية في 88 مناسبة، ما عرقل إنفاذ قواعد التجارة.

ورداً على ذلك أنشأت 57 دولة تمثل حوالي 58 % من التجارة العالمية ترتيب التحكيم الاستئنافي المؤقت متعدد الأطراف لحل النزاعات فيما بينها.

وفي مجالات أخرى بدءاً من التأهب للأوبئة، مروراً بحماية المحيطات، ووصولاً إلى حشد التمويل من أجل التنمية، تتعاون الحكومات حول العالم لتطوير حلول للقضايا الدولية حيثما أمكن.

لقد أدركت الدول، في اعقاب جائحة «كوفيد 19»، الحاجة إلى آليات أفضل لتحديد وعزل ومعالجة تفشي الأمراض المعدية لتجنب ملايين الأرواح المفقودة، وتريليونات الإنتاج المفقودة نتيجة الفشل في إدارة الجائحة الأخيرة بطريقة تعاونية، ولذلك فإنه في شهر مايو صادقت 124 دولة على معاهدة لإدارة الأوبئة المستقبلية، بما في ذلك الوصول العادل إلى اللقاحات ووسائل التشخيص والعلاجات، ولم تشارك الولايات المتحدة.

وبالمثل صادقت 51 دولة حتى الآن على معاهدة المحيطات لإنشاء مناطق محمية في المياه الدولية للحفاظ على التنوع البيولوجي، ولم ترسل إدارة ترامب مندوبين إلى الاجتماعات الأخيرة، ما يشير إلى أن أولويتها هي الأمن القومي والاستغلال التجاري مثل التعدين في أعماق البحار لكن بمجرد تصديق 60 دولة ستدخل المعاهدة حيز التنفيذ، ما يحمي 30% من محيطات العالم بحلول عام 2030.

المشكلة أن مثل هذه الحلول لا تنجح في جميع المجالات، كما أن النظام القديم لما بعد الحرب لم يكن كذلك، فقد جمعت مجموعة الدول السبع، ثم مجموعة العشرين، الأطراف الرئيسية، وبنت توافقاً، وأسندت المهام إلى الآلية الدولية القائمة على الأمم المتحدة، ومؤسسات بريتون وودز، وشبكة ضخمة من التحالفات والمعاهدات والمؤسسات، وقد وفر ذلك قدراً من الاستقرار والمنافع العامة، إلا أن هذه الحلول كانت ناقصة – ولذلك شبهت بأكياس الشاي، التي لا تصلح إلا في الماء الساخن.

إن التحديات الرئيسية لعالم يفتقر إلى مجموعة الدول السبع واضحة بالفعل. ويعد الأمن القومي مثالاً على استحالة إحراز تقدم دون تعاون متعدد الأطراف حقيقي.

وقد تكاثرت الصراعات وانتشرت، حيث بلغ عدد الصراعات بين الدول 61 صراعاً حتى عام 2024، ومعظمها مستمر لسنوات، وتكافح أوروبا لحماية طرق التجارة الحيوية عبر البحر الأحمر، وحتى مع التدخل الأمريكي النشط لا تزال الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط قائمة.

التغيير كذلك أكثر صعوبة في الأسواق المالية نظراً لدور الدولار، وأهمية سندات الخزانة الأمريكية أصلاً آمناً، ومركزية الولايات المتحدة في نظام المدفوعات الدولي، ولذلك يشهد النظام النقدي الدولي تحولاً واضحا، فقد انخفضت حصة الدولار الأمريكي في احتياطات البنوك المركزية من 71 % في عام 1999 إلى 58 % في عام 2024.

وشجعت الصين استخدام الرنمينبي في التجارة مع بعض النجاح، مدعومة بخطوط مبادلة من بنكها المركزي لأكثر من 40 دولة، لكن إجراء المدفوعات بعملة يختلف تماماً عن استخدامها أصلاً احتياطياً، حيث يتطلب الأمر الأخير أسواق رأس مال عميقة ومفتوحة ومؤسسات وطنية، تعزز الثقة بين المستثمرين الدوليين.

وفي أوروبا هناك الكثير من النقاش حول الدور المحتمل لليورو كبديل، لكن هناك حاجة إلى إحراز تقدم كبير في الدعم المالي المشترك وأسواق رأس المال المتكاملة، وبالنظر إلى كل هذه التحديات سيكون من الأسهل تحقيق الحلول بمشاركة الولايات المتحدة.

إن حل مشاكل العالم بدون القوة العسكرية العظمى في العالم وربع الاقتصاد العالمي والعملة الاحتياطية، كما يرى كثيرون، أمر صعب، لكن في عالم غير مثالي فإن التعاون ولو بقدر ضئيل أفضل من عدم وجود تعاون على الإطلاق.